الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الإعلام والهجمات السيبرانية بين حرية التعبير وجرائم المعلومات

بواسطة azzaman

الإعلام والهجمات السيبرانية بين حرية التعبير وجرائم المعلومات

عصام البرّام

 

في خضم الثورة الرقمية المتسارعة، أصبحت العلاقة بين الإعلام والهجمات السيبرانية واحدة من أكثر القضايا إلحاحاً وتعقيداً على الصاحة العالمية. فبينما يزداد آعتماد وسائل الإعلام على التكنولوجيا لنقل الإخبار وتغطية الإحداث وتحقيق السبق الصحفي، تتسع في المقابل رقعة الهجمات الإلكترونية التي تستهدف المؤسسات الإعلامية، وتطال الصحفيين والمصادر والمعلومات في آنِ واحد. وبين حرية التعبير التي تُعدّ حجر الزاوية في أي نظام ديمقراطي، وجرائم المعلومات التي تهدد الأمن القومي والخصوصية العامة، تقف المجتمعات أمام معادلة دقيقة يصعب حسمها دون نقاش عميق وتوازن دقيق.

لايمكن الحديث عن الإعلام في العصر الرقمي دون التطرق الى التحولات الجذرية التي طرأت على بنيته ووظائفه. فمنذ أن غزى الإنترنت كل تفاصيل حياتنا اليومية، لم يعد الإعلام حكراً على المؤسسات التقليدية، بل آنفتح المجال لوسائط جديدة مثل المنصات الإجتماعية والمدونات والقنوات الرقمية التي باتت تلعب دوراً مركزياً في تشكيل الرأي العام، وغالباً ما تكون الأسرع في نقل المعلومة، ولو على حساب الدقة أو التحقق. ومع هذا التحول، تغيرت أيضاً طبيعة التهديديات التي يتعرض لها الإعلام، حيث لم تعد تقتصر على المضايقات السياسية أو الضغوط الاقتصادية، بل أمتدت لتشمل هجمات الكترونية تستهدف الخوادم، تسّرب البيانات، والتشهير الرقمي، بل وحتى آختراق حسابات الصحفيين أنفسهم.

إن الهجمات السيبرانية على المؤسسات الإعلامية ليست مجرد عمليات تخريبة عشوائية، بل كثيراً ما تكون جزءاً من حملات منظّمة تهدف الى تشويه الرسائل الإعلامية، أو إسكات أصوات معينة، أو حرف النقاش العام في آتجاهات معينة. وفي بعض الحالات، تتحول وسائل الإعلام نفسها الى أدوات في يد المهاجمين، من خلال ترويج معلومات مزيفة أو مغلوطة جرى دسّها عبر آختراقات إلكترونية، ما يجعل الجمهور ضحية مزدوجة، من جهة فقدان الثقة في الإعلام، ومن جهة أخرى التعرض للخداع المعلوماتي.

قانون دولي

وفي ظل هذا الواقع المعقّد، تبرز الحاجة إلى الحديث عن الحدود الفاصلة بين حرية التعبير، التي يكفلها القانون الدولي والمواثيق الدستورية في معظم الدول، وبين الاستخدام السيء للتكنولوجيا، الذي يدخل في نطاق الجرائم المعلوماتية. فحرية التعبير، مهما كانت قدسيتها، لا تعني السماح بنشر الشائعات أو التحريض أو التشهير، وهو ما يجعل بعض الدول تتجه إلى سن قوانين تجرّم بعض أنواع المحتوى الرقمي تحت مظلة «الأمن السيبراني». لكن هذا التوجه غالبًا ما يثير المخاوف من التوسع في الرقابة وتقييد حرية الصحافة، خصوصًا في الأنظمة التي لا تملك فصلًا واضحًا بين السلطة التنفيذية والإعلام.

ولعلّ أحد أبرز الإشكاليات في هذا السياق هو صعوبة التفريق بين العمل الصحفي المشروع والهجمات السيبرانية، خصوصًا في الحالات التي تعتمد فيها التسريبات كمصدر للمعلومات. فحينما ينشر صحفيون مواد مسرّبة حصلوا عليها من مصادر مجهولة عبر الإنترنت، تطرح تساؤلات حول ما إذا كان ذلك يدخل ضمن حرية التعبير أم يمثل خرقًا لقوانين حماية البيانات. وفي هذا الإطار، تُعدّ قضية «ويكيليكس» نموذجًا حيًا، حيث انقسم الرأي العام بين من اعتبر النشر ممارسة صحفية جريئة تندرج ضمن حق المعرفة، ومن رأى فيه تهديدًا لأمن الدول وتواطؤًا مع جهات غير معلومة الهوية.

ولا تقتصر الهجمات السيبرانية على استهداف المؤسسات فقط، بل تطال أيضًا الأفراد، خصوصًا الصحفيين الاستقصائيين والناشطين الرقميين الذين يكشفون قضايا فساد أو انتهاكات حقوق الإنسان. فقد أظهرت تقارير دولية أن العديد من هؤلاء تعرضوا لاختراق هواتفهم وحساباتهم الإلكترونية باستخدام برامج تجسس متطورة، تم تطويرها غالبًا من قبل شركات خاصة وتباع لحكومات أو جهات فاعلة غير حكومية. ومع ذلك، نادرًا ما يُحاسب المسؤولون عن هذه الهجمات، إما لصعوبة التتبع التقني أو لغياب الإرادة السياسية، ما يخلق مناخًا من الإفلات من العقاب ويهدد استقلالية العمل الصحفي.

وتبرز في هذا السياق ضرورة تطوير منظومة قانونية متوازنة تضمن حماية حرية التعبير دون السماح باستغلالها في تنفيذ جرائم معلوماتية، وتُشدد العقوبات على الجهات التي تشن هجمات إلكترونية على الإعلام، سواء كانت حكومية أو غير حكومية. كما يُفترض أن تتكامل هذه المنظومة مع جهود تقنية لتعزيز أمن المعلومات في المؤسسات الإعلامية، وتدريب الصحفيين على سبل الحماية الرقمية، وتوفير الدعم القانوني لهم في حال تعرضهم لهجمات من هذا النوع.

من جانب آخر، يجب ألا يغيب عن الأذهان دور الجمهور في هذه المعادلة. فالاستهلاك الواعي للمحتوى الإعلامي، والتدقيق في مصادر الأخبار، وعدم الانسياق وراء الحملات المشبوهة، كلها عوامل تسهم في تقليص أثر الهجمات السيبرانية التي تستهدف الإعلام. فكلما كان الجمهور أكثر وعيًا وقدرة على التمييز، قلت فرص نجاح الهجمات التي تراهن على بث الفوضى المعلوماتية والتشويش على الوعي الجماهيري.

مهمة مراقبة

ولا يمكن في هذا السياق إغفال دور مؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية، التي يقع على عاتقها مهمة مراقبة الانتهاكات، والتوثيق، وتقديم الدعم للضحايا، فضلًا عن الضغط من أجل سن تشريعات عادلة ومتوازنة. كما ينبغي تعزيز التعاون الدولي لمواجهة الجرائم السيبرانية العابرة للحدود، إذ لم تعد هذه التهديدات محصورة داخل نطاق جغرافي معين، بل باتت تنطلق من دولة وتستهدف مؤسسات في أخرى، بما يعكس حجم التحديات الأمنية التي تواجهها الصحافة الحديثة.

إن مستقبل الإعلام في عصر الهجمات السيبرانية مرهون بقدرة المجتمعات على ترسيخ توازن دقيق بين حرية التعبير والمسؤولية الرقمية. فكما لا يمكن القبول بأي تقييد تعسفي للصحافة تحت ذرائع أمنية، لا يصح أيضًا التهاون مع الجرائم المعلوماتية التي تهدد البنى التحتية للمؤسسات الإعلامية أو تسعى لتقويض مصداقيتها. وما بين هذين الحدين، تقع مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا شعبيًا، وتشريعًا متزنًا، وتعاونًا دوليًا، وتطورًا تقنيًا يواكب حجم التحديات المستجدة.

إن الإعلام في جوهره رسالة، والهجمات السيبرانية في جوهرها تخريب، وبين الاثنين خط فاصل تحدده نوايا المستخدمين ومضامين المحتوى وسياقات النشر. فإذا ما تم احترام هذا الخط وتفعيله ضمن أطر قانونية ومجتمعية متماسكة، أمكن التوفيق بين حماية الحريات ومنع الانتهاكات، أما إذا استمر الخلط والغموض، فإن النتيجة ستكون فقدان الثقة بالإعلام من جهة، وتعاظم نفوذ القراصنة الرقميين من جهة أخرى، وهو ما لا يمكن لأي مجتمع يسعى للاستقرار أن يقبل به.


مشاهدات 31
الكاتب عصام البرّام
أضيف 2025/12/09 - 3:45 PM
آخر تحديث 2025/12/10 - 12:46 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 46 الشهر 6858 الكلي 12790763
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير