الغفران رفعة لا يجيدها الجميع
هدير الجبوري
لم أتعلم الغفران من الكتب، ولا من دروس الاخلاق التي تقال على عجل، بل من التجارب التي علمتني ان الصفح لا يعني الضعف، وان من يملك القدرة على التسامح بعد الخذلان انما أمتلك ناصية القوة الحقيقية. كم مرة مرت في حياتنا مواقف جعلتنا على حافة الغضب، دفعتنا الرغبة في الرد، في القصاص بالكلمة او بالفعل، لكننا آثرنا الصمت. ذلك الصمت الذي يبدو استسلاما في ظاهره، بينما هو في جوهره اعمق من اي أنتقام.
غفرت كثيراً، لا لان الآخرين يستحقون الغفران، بل لانني لا احتمل ثقل الكراهية في قلبي. فالقلب الذي يسكنه الغضب لا يعرف الطمأنينة، والروح التي تحتفظ بالاذى تفقد بريقها ببطء. الغفران ليس ضعفاً في الذاكرة، بل قرار شجاع بعدم السماح للألم ان يتحكم بمسارنا.
كم من مرة اجتمع فينا شعور المرارة، وتكدست خيبات صغيرة خلف اخرى، من اصدقاء خَذلوا، ومن حظ عاثر عبث باقدارنا، ومن مواقف كان يمكن ان تكون ألطف لو أن النية كانت انقى. ومع ذلك، لم نغلق الباب. تركناه موارباً كاننا نخشى ان نكون نحن القساة هذه المرة.
الغفران لا يُمنح مجاناً، انه يُكتسب بعد صراع طويل مع الذات. ان تغفر يعني ان تختار النقاء رغم العتمة، وان تمضي خفيفا رغم الأحمال، وان تقول في داخلك: لقد حاولت ان اكون إنساناً رغم كل ما يغريني بان أكون شيئاً آخر.
في عالم تزداد فيه القسوة يوميا، يصبح الغفران عملاً استثنائيا، تمرداً على طبائع الانتقام وسلوكيات الجفاء. انه فعل مقاومة ناعم، لا يُرى ولا يُسمع، لكنه يبدل فينا الكثير. يمنحنا قدرة على التوازن، وصفاء يجعلنا نعيش بضمير غير مثقل بالماضي.
حين نغفر، نحن لا نبرئ الآخرين، بل نحرر انفسنا من أسرهم. نعلن انتهاء سلطة الأذى علينا، ونعيد ترتيب الداخل كما نشاء، بلا ضجيج ولا مِنة. فالغفران في جوهره موقف جليل، لا يحتاج الى ضوء يسلط عليه، بل الى قلب يعرف ان الصفح امتداد للكرامة لا إنتقاص منها.
وساغفر دائماُ، ليس لانني لا اتعلم من الاذى، بل لانني ارفض ان أشبه من أوجعني. سأغفر لأمضي بخفة، وكأن شيئا لم يحدث، لانني أؤمن ان الطمأنينة أثمن من العدالة المؤجلة، وان راحة القلب هي النصيب الذي لا يُشترى.