الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الاعتزاز بالذات المدخل لهوية وطنية جامعة في العراق

بواسطة azzaman

الاعتزاز بالذات المدخل لهوية وطنية جامعة في العراق

قتيبة آل غصيبة

 

تواجه الدول متعددة الأعراق والطوائف تحدياً مضاعفاً في بناء هويتها الوطنية، إذ يتطلب ذلك إدارةً حكيمة للتنوع مع تعزيز الشعور بالانتماء الوطني العام، وفي الحالة العراقية؛ التي شهدت منذ عام 2003 سلسلة من الانقسامات السياسية والاجتماعية؛ يتقدم سؤال الهوية إلى صدارة النقاش الوطني مجدداً؛ خصوصاً بعد ما أفرزته انتخابات 2025 من اصطفافات وتحالفات طائفية وعرقية أستمرت في إنتاج الانقسام بشكل آخر.

في هذا السياق، يبرز مفهوم الاعتزاز بالذات (فردياً وجماعياً) باعتباره الركيزة الأساس لبناء انفتاح متوازن على الآخر؛ وعماداً لأي مشروع وطني يسعى إلى استعادة تماسك الدولة والمجتمع، إن الاعتزاز بالذات يعتبر  أساساً للانفتاح على ألاخرين؛ فهو يمثل رؤية فكرية راسخة؛ تتفق مع  أفكار مفكرين بارزين؛ في مقدمتهم المفكر الاسلامي الراحل "مالك بن نبي؛ ت:1973"؛ وعالم النفس ألالماني "إريك فروم؛ ت: 1981"؛ والاديب اللبناني "أمين معلوف"؛ على أن المجتمعات التي تمتلك تقديراً وإعتزازاً بالذات قادرة على الاندماج والتفاعل دون خوف من الاختلاف، إن الاعتزاز بالذات لا يعني التعصب أو الاغلاق؛ بل هو مستوى من الثقة يجعل الهوية الفردية والجمعية مستقرة؛ ويحررها من الشعور بالتهديد؛ وبالتالي يجعل الانفتاح على الآخر المدخل الطبيعي للحوار والتفاهم، فالتجربة الإنسانية تشهد على أن الأمن الهوياتي هو الأساس الأول للأمن المجتمعي، وأن المجتمع الواثق من ذاته أقدر على المشاركة السياسية الرشيدة؛ ونزع فتيل الصراعات؛ والانخراط في مشروع وطني عام يتجاوز الحسابات الضيقة.

 

يعيش العراق بعد الغزو والاحتلال الامريكي البغيض في 2003؛ أزمة هوية قبل أن تكون أزمة سياسة؛ فقد أدى هذا ألاحتلال إلى زيادة مضطردة في خلخلة البنية الوطنية العراقية وفتح الباب أمام هويات فرعية نشأت في ظل غياب مشروع دولة قوي، ومع مرور الوقت؛ تحولت المحاصصة الطائفية إلى إطار أساسي في  الحياة السياسية؛ فضعفت الهوية الوطنية الجامعة لصالح الهويات المذهبية والعرقية،  وبالرغم من محاولات متكررة لبناء تحالفات سياسية وطنية عابرة للطوائف؛ فإن انتخابات 2025 أظهرت بوضوح أن الاصطفاف الطائفي والعرقي ما يزال يؤثر في بنية النظام السياسي؛ إذ تشكلت التحالفات وفق منطق المكوّن لا وفق منطق الدولة، وهذا دليل على وجود فجوة في الاعتزاز بالذات الوطنية؛ تجعل الانتماء الجزئي بديلاً عن الانتماء العام؛ وتفتح الباب واسعاً أمام التدخلات الخارجية والتجاذبات الداخلية؛ وتعطّل مؤسسات الدولة.

ومما يجدر الاشارة إليه؛ فقد ظهرت في تاريخنا المعاصر؛ نماذج دولية ناجحة في تعزيز الهوية الوطنية الجامعة؛ قَدَّم لنا نماذج لبلدان متعددة الأعراق والطوائف نجحت في بناء هوية وطنية قوية دون إلغاء خصوصيات مكوناتها، ومن أبرز هذه التجارب: ماليزيا؛ التي تتألف من مزيج واسع من الماليزيين المسلمين والصينيين والهنود؛ ونجاحها يعود إلى الاعتراف الكامل بهويات المكونات المختلفة؛ وصياغة خطاب وطني جامع يتقدم على الانتماءات الفرعية؛ وتوزيع فرص التنمية بشكل يقلل من الشعور التهميش، وكذلك مع سنغافورة؛ التي اعتمدت سياسة "الأمة المتعددة" ؛ وبنت هويتها على قاعدة المواطنة واحترام التعددية الدينية والعرقية؛ ولم تلجأ إلى تذويب الهويات الفرعية؛ بل تعاملت معها كجزء من تكوين وطني واحد، وأيضاً كندا؛ التي تعيش تجربة رائدة في "التعددية الثقافية"؛ إذ يحتفظ كل مكوّن بثقافته ولغته؛ وفي الوقت نفسه يتشارك الجميع بهوية وطنية قوية قائمة على العدالة والمساواة وسيادة القانون، وأيضاً جنوب أفريقيا بعد نهاية الفصل العنصري فيها؛ تبنت مفهوم "أمة قوس قزح"؛ ما أتاح بناء هوية وطنية جديدة مع الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية للجماعات المختلفة.

عموماً، فإنه يمكن للعراق الاستفادة من هذه التجارب عبر ألاسس الاتية: تعزيز الهوية الوطنية الجامعة؛ بعيدا عن تذويب الهويات الفرعية  والاعتراف بها ودمجها ضمن إطار وطني أوسع يشعر الجميع بأنه يمثلهم يحميهم، إعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة عبر مؤسسات قوية وعادلة؛ تجعل المواطن يبحث عن حقوقه عبر الدولة لا عبر جماعته الطائفية أو العرقية، مشروع شامل للتنمية المشتركة؛ إذ يعتبر  أقوى هذه الاسس القادرة على توحيد الهويات؛ وتحويل الانتماء الوطني إلى تجربة معاشة يومياً لا مجرد خطاب سياسي. وبالتأكيد فأن كل تلك الأسس لايمكن تحقيقها إلا من خلال تعزيز دور النخب الوطنية وتقوية نفوذها وأحزابها بعيدا عن الاحزاب والتحالفات الطائفية والعرقية؛ لبناء عراق قوي يعيش فيه الجميع تحت خيمة الهوية الوطنية الجامعة.

ختاما فإن الاعتزاز بالذات ليس شعارًا ثقافياً أو أدبياً؛ بل هو ركيزة استراتيجية لقيام دولة مستقرة ووطن متماسك، وقدر تعلق الامر بالعراق الذي يعاني من تراكمات سياسية واجتماعية ممتدة؛ يصبح هذا الاعتزاز شرطاً أساسياً لبناء علاقة سليمة بين المكونات المختلفة؛ وبناء تجربة ديمقراطية وطنية؛ من خلال تأسيس مسار جديد تتقدم فيه الهوية الوطنية بوصفها حاضنة للجميع لا غطاءً لفريق دون آخر، وما لم يُبنى مشروع وطني يرسّخ هذا الاعتزاز؛ سيبقى العراق معرّضاً لدوائر الانقسام؛ مهما تغيرت القوانين أو تبدلت الوجوه السياسية، وإذا ما تم استعادة الثقة بالذات الوطنية؛ فإن العراق سيصبح قادرا؛ بتاريخه وطاقاته وتعدديته على أن يقدم نموذجًا متقدماً في العيش المشترك، ويحول تنوعه من مصدر نزاع إلى مصدر قوة واستقرار...

والله المستعان.


مشاهدات 52
الكاتب قتيبة آل غصيبة
أضيف 2025/12/09 - 2:29 PM
آخر تحديث 2025/12/10 - 6:33 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 198 الشهر 7010 الكلي 12790915
الوقت الآن
الأربعاء 2025/12/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير