أذن وعين
عندما يلعب السياسيون (البوكيمون)
عبد اللطيف السعدون
لعبة «البوكيمون» التي انشغل أطفال ومراهقون كثيرون بها منذ ظهورها قبل عقود تقوم على مطاردة «الوحوش» واصطيادها، معتمدة على الجمع بين ما هو ماثل في الواقع وما هو مفترض في العقل الإلكتروني، ويبدو أن حكام العراق الذين حملتهم مصادفة نادرة الى كراسي السلطة اتقنوا هذه اللعبة ولكن على نحو مختلف، ويظل الجامع بين النسخة العالمية للعبة ونسخة حكام بغداد أن كلتا النسختين تستنفدان جهد اللاعب في بحثٍ متصل عن «وحوش»، بعضها واقعي وبعضها الآخر افتراضي، والقبض عليها واصطيادها. وفي «البوكيمون» العالمية، كلما نجح اللاعب في اصطياد عدد أكبر من «الوحوش»، وتسجيل نقاط أكثر حصل على أموال افتراضية أكثر، وهنا متعة اللاعب التي تدفعه إلى ممارسة اللعبة والإدمان عليها لكنها في نسختها العراقية كلما خيل للاعبٍ أنه نجح في اصطياد «الوحوش»، أفلتت من يده وغابت. وسرعان ما تعود لتواصل فعلها الشرّير في هذا المكان أو ذاك، عندها يتراجع اللاعب خائباً، حائراً بين أمرين، البحث عن فرصة جديدة للعب أو أن يطوي أوراقه ويمضي.
وقد يحصل لأحدهم أن يبرز فجأة ليلقي حجراً ثقيلاً في مياهٍ جارية ليجعل موجاتها تتصاعد لتقذف بحصيلتها على نحو جنوني، مسببة حالة ذعرٍ لكل من يعنيهم الأمر، وهو يسعى من خلال ذلك إلى القبض على «وحوش» حقيقية واصطيادها لتنال جزاءها العادل بعدما أدمنت الفساد والإفساد طوال السنوات العجاف التي أعقبت غزو البلاد. وقد تطلق فعلة كهذه سيلاً من اللاعبين في هذا الاتجاه أو ذاك، ويروح كل منهم يجول في الأماكن المحيطة به ساعياً إلى إنقاذ نفسه، والقبض على خصومه واصطيادهم.
مهارة فائقة
وإذا كانت «البوكيمون» تتطلب مهارةً فائقة في اللعب والاستكشاف، فإن اللعبة، بصيغتها التي عمد إليها الرجال النافذون في العراق، لا تتطلب جهداً وفعلاً كثيرين، لأن «الوحوش» موجودون في أماكن محدّدة ومعروفة، أبرزها «المنطقة الخضراء» ومكاتب الرئاسات الثلاث والوزراء والنواب، والواحد منهم يعرف الآخر، وبالإمكان اصطيادهم والقبض عليهم بسهولة إن توفرت العزيمة والنية الخالصة لكن من غير المتوقع أن يحدث ذلك لأنهم متشاركون جميعا ومتواطئون في ما بينهم على سرقة المال العام وتخريب الذمم ودفع المجتمع نحو الانهيار، ولأن ما بين الواحد والآخر منهم ما يشبه توافق اللصوص على اقتسام الغنائم، وعلى أن يكونوا عندما تضيق الحلقة عليهم مثل الجسد الذي يشدّ بعضه بعضا، وقد تنتابهم الهستيريا في سعيهم لتجنيب بعضهم البعض ما قد يلحق الضرر بأحدهم.
هكذا، إذن، لا شيء يوحي أنهم مقبلون على إصلاح أنفسهم، وأن دولة الفساد آخذة في التلاشي، ولا شيء يوحي بأن سعياً جدياً قائماً اليوم على مستوى القضاء والبرلمان وهيئة النزاهة، للقضاء على ظاهرة الفساد التي دفعت منظمات دولية متخصصة لوضع العراق في ذيل قائمة الشفافية سنوات عدة، كما لا شيء يوحي بقدرة أي رئيس حكومة قادم على مقارعة الحيتان الكبار، واصطيادهم والقبض عليهم، وأيضاً لا شيء يوحي أنه، هو الآخر، ليس «حوتا» مثلهم.
وما هو مثير حقا أن يستمر رجال الطبقة السياسية النافذون بممارسة لعبة «البوكيمون»، فيما بينهم، والزعم بنيتهم اصطياد «الوحوش»، بهدف تضليل الجمهور وخداعه، ويستمر السذّج والبسطاء، والمغلوب على أمرهم، في انتظار «المهدي» الذي يجيء ولا يجيء، لإنقاذهم مما هم فيه، وقد رأوا، بأم أعينهم، أن البلاد لا تمر بأزمة حكم وحسب، وإنما بأزمة أخلاق وقيم، بصعب معالجتها من دون «عمليةٍ سياسيةٍ» وطنية، تغير الحال والمآل.
ويبقى الاعتراف، في النهاية، مطلوباً بفضيلة من يلقي حجراً ثقيلاً في مياهٍ جارية ليجعل موجاتها تتصاعد، وقد لا تحقق فعلته هذه ناتجاً ذا قيمة في الحاضر، لكنها ستمهد الطريق أمام آخرين للاقتداء بها، والعمل على دفع عجلة التغيير والإصلاح إلى أمام بعد أن طفح الكيل، ولم يعد في قوس الصبر ثمة منزع.