الكتابة الصحفية بين البعد الأدبي والوظيفي: مقاربة في اللغة وعمليات التعبير
عدنان العابد
لا شكّ أن اللغة هي رأس المعرفة وأداة التواصل بين الماضي والحاضر، وهي الوعاء الحافظ للذاكرة الحضارية، وميزان الاعتدال الثقافي، ومجال تجلّي الأصالة. فاللغة ليست مجرّد ألفاظ نتداولها، بل هي منظومة من العادات والتقاليد وأساليب التفكير، ولونٌ من ألوان الشعور الذاتي. إنها وسيلة للتعبير والتخاطب، وتُعدّ اللغة العربية أبرز مظاهر الثقافة العربية وأعمقها تأثيراً، لما تمتاز به من جماليات صوتية وتناغم بين الحروف والحركات، تجعل منها وعاءً ثرياً للوجدان الإنساني.
وتُعدّ اللغةالعربية مصدراً أساسياً من مصادر التذوّق الجمالي والأدبي؛ إذ تنمّي الحس والذائقة، وتغذّي قيم الجمال لدى الإنسان. فكم من قارئ غاص في قصة جميلة وأبحر بخياله في آفاق بعيدة، فوجد فيها راحةً نفسية وسعادة داخلية أشبعت ميوله وأدبه واتزانه النفسي، ليصبح قادراً على مشاركة الآخرين أفراحهم وأحزانهم من خلال ما يختلج في داخله من انفعالات وصور.. فالتفكير في جوهره مخاطبة للذات، وهذا ما يجعل الكاتب أو الصحفي أو الأديب مطالباً بالإحساس بتناغم اللغة ليبدع من خلالها، وينسج بها ما يمثّل ذاته ويتفاعل مع المجتمع، مؤدياً دور الوسيط الذي ينقل صوت الناس ويعبّر عنهم حين يعجزون عن التعبير..
مفهوم الكتابة /
قد يبدو تناول مفهوم الكتابة لغوياً واصطلاحياً موضوعاً أكاديمياً جافاً، إلا أن الإلمام به ضروري. فالكتابة لغةً هي تصوير الأفكار بالحروف والكلمات وفق تراكيب نحوية صحيحة. ويرى ابن خلدون أنّ الكتابة من الصنائع الإنسانية التي تعتمد على رسوم حرفية تحمل ما في النفس البشرية من أفكار.
أما الكتابة الصحفية، فهي إحدى مهارات اللغة العربية التي يقوم فيها الكاتب أو الصحفي بتوليد الأفكار وصياغتها وتنظيمها، ثم وضعها بصورتها النهائية على الورق. وهي عملية عقلية تتطلب قدرة على مواجهة المواقف الحياتية المختلفة، وتحرير الأخبار والمقالات والخاطرة بأسلوب متقن من ناحية اللغة والمضمون.
أبعاد اللغة في الكتابة الصحفية/
تقوم الكتابة الصحفية على بُعدين أساسيين متلازمين:
1. البعد الشكلي (اللفظي):
ويتضمن الألفاظ والتراكيب والقوالب اللغوية التي يختارها الكاتب الصحفي لتكون الوعاء الحامل لأفكاره، وقد سبقت الإشارة إلى هذه القوالب بوصفها من أدوات العمل الإعلامي.
2. البعد المعنوي (المعرفي):
ويشمل المعلومات والحقائق والخبرات التي يستمدها الصحفي من تجاربه وقراءاته ومشاهداته، لتنعكس على نتاجه الكتابي تأثيراً وإقناعاً. وهذا ما يُعدّ أساساً للتواصل مع المتلقي.
كيف نكتب؟
إن الكتابة الصحفية عملية ذهنية لغوية يبدأ فيها الصحفي بتوليد الأفكار المرتبطة بموضوعه وترجمتها إلى جمل وفقرات منسجمة، مستنداً إلى قواعد الكتابة العربية ومتطلبات التأثير في الجمهور المستهدف.. ويستلزم ذلك إعداد أجندة عمل قبل الشروع في كتابة الخبر أو المقال، لأن مرحلة التخطيط تُعدّ مهارة جوهرية في بناء النص.
وغالباً ما يشعر الصحفي بأن الأفكار شحيحة رغم أن حياته مليئة بالموضوعات .إلا أن الإمساك بالقلم يعيد تدفقها تدريجياً. وهنا تبرز أهمية الأسئلة التأسيسية التي يجب على الصحفي أن يطرحها على نفسه:
لماذا أكتب؟
أي ما الهدف من الكتابة؟ هل هو مخاطبة وجدان القارئ أم عقله؟ إذ يختلف أسلوب كاتب يُثير، عن كاتب يُعلّم، عن كاتب يُقنع.
لمن أكتب؟
تحديد الشريحة المستهدفةمثقفة كانت أم عامة وضرورة تحمي الكاتب من سوء الفهم وتضمن وصول المعنى، فـ«لكل مقام مقال».
ماذا أكتب؟ وكيف؟
هنا يستحضر الكاتب أفكاره، ويحدّد الطريقة والاسلوب المناسبين:
كتابة الخبر تختلف عن كتابة المقال، وكتابة التقرير تختلف عن التحقيق، والكتابة العلمية ليست كالأدبية.
التخطيط لعملية الكتابة/
تستند عملية التخطيط إلى جملة مؤثرات سلوكية ومهارية، من أبرزها:
1. التفكير في الموضوع من زوايا متعددة.
2. تحديد المشكلة أو محور الكتابة.
3. تحليل الموضوع إلى عناصره المعروفة والإجابة على الاسئلة الستة أو بعض منها من ، ماذا . لماذا . كيف .متى واين
4. بلورة الفكرة المحورية.
5. توليد الأفكار المرتبطة بالموضوع وتدوينها.
6. وضع مخطط ذهني وهيكلي للموضوع.
7. تحديد الإجراءات اللازمة لكتابة النص.
8. خلق إحساس إيجابي تجاه الموضوع.
9. اختيار المنهجية المناسبة لعرض الأفكار.
10. النظر إلى الموضوع بوصفه مشكلة تستحق الحل.
11. تحديد أهداف الكتابة.
12. جمع المعلومات والبيانات المساندة.
13. تصور عدد الفقرات..وتتظمن المساحة الإخبارية للوعاء الاعلامي
14. تحديد العلاقات بين الأفكار.
15. تعميم مخطط أولي للفقرات..اعتماد الهرم المقلوب بأولوية الافكار
16. جمع الأدلة والشواهد.. هذا الأمر يتجلى بالتحقيق الاخباري والصحافة الاستقصائية أو الاستفسارية
17. معرفة السياق والقيود المرتبطة بالموضوع.. وهذا الأمر يتبع سياسة الجريدة أو المجلة أو الجهة الإعلامية التي يعمل بها الصحفي
18. تحديد المفاهيم الأساسية قبل الكتابة.. لماذا اكتب ولكن اكتب وماالغاية من الكتابة
مرحلة الإنتاج
تبدأ بالمسودة الأولى حيث يجمع الصحفي أفكاره ويعيد توزيعها داخل جسد الموضوع. وهي مرحلة تتطلب التكتيك والأسلوب الذي يساعد على توليد الأفكار وصياغتها ضمن قوالب لغوية مناسبة للجمهور والهدف.
ولصياغة أي مقال أو تقرير أو بحث يجب مراعاة ما يلي:
*اختيار الألفاظ والمصطلحات المناسبة للموضوع.. تجنب التكرار قدر الإمكان وخاصة بالعناوين التمهيدية والرئيسية والفرعية
*بناء الجملة والفكرة الرئيسية في مكانها الصحيح داخل الفقرة.. وكما أسلفنا في محاضرات سابقة لكل فقرة فكرة أو لكل فكرة فقرة
*دعم الأفكار بالأدلة مع الالتزام بالأمانة العلمية.. الاقتباس لابأس به مع ذكر المصدر إن كان نصآ ثابتا ومعارف عليه ، وان كان لابد من الاقتباس يمكن للصحفي ان يفهم النص ويكتبه من بناة افكاره
*توظيف الخبرات السابقة..كنوع من الدعم والاستشهاد بالتجارب الناجحة السابقة
*صياغة مقدمة جذابة.تسحب القارئ وتجعله لا يغادر الموضوع حتى اتمامه
*محاورة القارئ بقصد الإقناع.
*استخدام أدوات الربط.
*تكييف أسلوب الكتابة مع الهدف.
*استخدام الصور البيانية والمخططات عند الحاجة..وهذا الأمر متعلق بالانترنت الذي يوفر هذا الأمر عنوع من الدعم
*مراعاة احتياجات الجمهور المتلقي..اهتمام الصحفي بالقيم الخبرية كالأهمية ، الغرابة ، الضخامة...
*استنتاج الأفكار بصورة منطقية..اعتماد الواقعية وعدم المبالغة
*تبني موقف واضح حيال الموضوع..ويتجلى هذا الأمر بالمقال الذي يتبنى رأي الكاتب حيال ما يكتب
*إعداد مسودة قابلة للتطوير..كتابة أولية دون تنظيم
*تنظيم المادة وعرضها بفقرات مترابطة..ربط الفقرات بادوات الربط المعروفة بأسلوب ابداعي تسلسلي دون تكرار الفقرات.
عملية التحرير
التحرير خطوة جوهرية لا غنى عنها، لأن الكاتب أثناء انهماكه بالمعلومات قد يقع في أخطاء لغوية أو إملائية أو أسلوبية. وتقتضي التحرير قراءة النص قراءة نقدية، وضبط الأخطاء، وحذف الزائد، وتعديل العبارات غير الدقيقة، وإضافة علامات الترقيم في مواضعها الصحيحة قبل الطباعة والنشر. وبعض الصحفيين يعدّ التحرير إعادة كتابة كاملة للنص.. لذلك فإن هناك فرقا كبيرا مابين الكتابة الصحفية والتحرير الصحفي الذي يقف عند كل خطأ لغوي أو نصب أو علامة ترقيم ..
النشر: الغاية النهائية
النشر لا يعني عرض المقال أو التقرير في صحيفة أو مجلة فحسب، بل الاطلاع عليه من قبل القارئ. فما قيمة النص إن لم يصل إلى جمهوره؟
لذلك على الكاتب أن يضع نصب عينيه أنه يكتب للآخرين، وأن يقدم أفضل صورة لأفكاره، تماماً كما يعرض التاجر بضاعته بأبهى صورة ليكسب الزبون.. ومن المفيد استشارة الزملاء وأصحاب الخبرة، خاصة لمن لم يتعمقوا بعد في عالم الكتابة الصحفية.
وفي الختام، فإن الإلمام بأسس الكتابة والتخطيط والتحرير والنشر يتيح للكاتب الصحفي أن يؤدي رسالته بفاعلية، وأن يكون الصوت المعبر عن القارئ واهتماماته مع مراعاة أن الكتابة الصحفية إن لم تؤدي الغرض منها لاتعد كتابة صحفية ، لأن مهام الصحفي في رسالته الإخبارية لاتنتهي بمجرد كتابة الخبر او المقال أو التقرير بل تبتدأ بها وتنتهي حيث صدى هذه الرسالة لدى الجمهور ، والجمهور وحده يحدد مدى قبول ونجاح هذه الرسالة.