حين تجرّم الأغاني ويترك السراق
شوقي كريم حسن
هل نعيش فعلاً في بلد يملك مشكلات بسيطة لدرجة أن حفلة غنائية في البصرة تُصبح مخالفة قانونية؟ هل انتهت ملفات الفساد؟ هل استردّ القضاء المليارات المنهوبة؟ هل توقفت السرقة من المال العام؟ هل عادت الكهرباء بعد ثلاثين سنة؟
لا. لكن- مع ذلك- خطر غنائي يهدد المجتمع! وهنا تنهض الهمة القضائية ويُكتب بلاغ رسمي فيه أختام ومعاملات وورق رسمي، كأننا أمام مؤامرة تهدد الأمن القومي.والأدهى: الحديث عن أغاني الجنوب وكأنها بدعة جديدة، بينما هي غناء يمتد لأكثر من أربعة آلاف سنة… غناء سومري، بابلي، آشوري، عبادي، صوفي، ريفي، بحري، بدوي، حضري… هذا البلد يغني منذ أن وُجد، والغناء جزء من روحه وهويته، لا يستطيع أحد أن يصادره أو يفرض على الناس تديّنًا قسريًا أو ذوقًا أحاديًا.نحن بلد متنوّع، متعدد، صوت واحد لا يكفيه.هذان الجنوبان- جنوب الماء، وجنوب الناي، وجنوب المواويل- لم يعرفا يوماً أن الغناء جريمة. حسن داخل، حضيري أبو عزيز، عفيفة اسكندر، داخل حسن، رياض أحمد… هل كانوا قتلة؟ هل كانوا فاسدين؟ هل سرقوا قوت الناس؟
الغناء لم يقتل أحداً… لكن الفساد قتل بلداً كاملاً.وإذا كان هناك من يريد فعلاً أن يحمي المجتمع، فليذهب إلى السراق الحقيقيين. الرب نفسه لم يدعُ لمحاربة المغنين، بل دعا لمحاربة الظلم والفساد والسحت والسرقة…
أما تحويل حفلة بسيطة إلى قضية أمن مجتمعي فهو ليس دفاعاً عن الأخلاق، بل هروب من المعركة الحقيقية.معركتنا ليست ضد عودٍ يُعزَف، بل ضد يدٍ تسرق.ليست ضد أغنية، بل ضد من ينهب خزائن الناس.
ليست ضد الفرح، بل ضد من حوّل الفرح إلى تهمة.من يريد فرض رأيه على الناس فهو لا يدافع عن دين ولا عن قيم، بل يفرض وصايته الشخصية على وطن كامل. والغناء سيبقى، لأنه أقدم من السلطة، وأبقى من السلطة، وأصدق من السلطة،أن مثل هذه الطلبات ليست سوى محاولة لفرض وصاية على المجتمع، وإلهائه عن الفساد الحقيقي.المشكلة ليست في الورقة التي رُفعت إلى القاضي، بل في العقليّة التي تقف خلفها:عقليّة تريد اختزال العراق في صوت واحد، لون واحد، مزاج واحد، بينما هذا البلد—بتنوّعه وعمقه وامتداد حضاراته—أكبر من أن يُحشر في ضيق فكر أو مزاج شخصي.كيف يُعقَل أن يُكتب بلاغ ضد حفلة، بينما لا يُكتب بلاغ واحد ضد مسؤول يملك 17 عقاراً بلا راتب يبرّر ذلك؟
كيف يُناقَش “رقص الجمهور” بينما لا يناقش أحد 6000 ملف فساد؟
كيف تُحرَّك السلطة على أغنية، بينما لا تتحرك على رواتب الفضائيين، والمشاريع الوهمية، والعقود الفاسدة، وصفقات السلاح؟
أيّة معادلة هذه…وأيّ منطق؟
من يتصور أن بإمكانه فرض رأيه على مجتمع كامل، فهو جاهل بتاريخ هذا البلد.الجنوب كان يغني قبل أن تُكتب أول شريعة، وكان يبكي ويهتف ويقصّ الحكمة على صوت الناي قبل أن تُبنى أول minaret.هذا إرث عمره آلاف السنين، لا يمكن لشخص واحد أو جهة واحدة أن تمحوه ببلاغ أو ختم أو ورقة رسمية.بل الأغرب أن يُربط الغناء بذكرى وفاة الزهراء عليها السلام!
هل قالت الزهراء يوماً: “امنعوا الفرح”؟
هل دعت إلى مصادرة حياة الناس؟
هي رمز للعدل، لا رمز لكآبة مفروضة.
هي دعوة للحق، لا دعوة إلى قمع المجتمع.وإذا كان البعض يرى نفسه وصيّاً على “أخلاق الناس”، فنحن نقول: الأخلاق تبدأ من محاربة الظلم، ومن رفع الظلم عن الناس، ومن وقف الفاسدين عند حدّهم.من يمنع أغنية ولا يمنع سرقة… ليس مدافعاً عن الأخلاق، بل شريكاً في الخراب.البلد لا يسقط حين يغني…البلد يسقط حين يسكت الجميع عن الفاسدين.!