الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
وداعا ترمب

بواسطة azzaman

وداعا ترمب

جليل إبراهيم المندلاوي

 

ها أنا أستيقظ من نوم غريب، حيث رأيت حلما عجيبا ربما يكون تافها، أو ربما بقايا من رؤيا متقلبة الأحوال، لأجد نفسي أكتب نبوءة سخيفة بسخرية لاذعة، وكأنني أمازح القدر وأتنبّأ بنهاية موسم سياسي هزلي مع قليل من المرارة التي تليق بعصر الكوارث الذي نعيشه.

حيث رأيت في المنام رجلا ضخم الشعر، برتقاليا كالبرتقال الفاسد، يقف فوق سحابة من الدولارات، رأيته في المنام، نعم، كان دونالد ترمب نفسه، وهو يرتدي بدلة من الغرور الخالص وربطة عنق أطول من قائمة حروبه، ويمشي فوق غيوم حمراء لم أرَ لها مثيلا، ويلوّح بيده اليمنى للجماهير التي لم تعد تصفق، بينما بيده اليسرى يحمل قنبلة كتب عليها بخط أنيق "السلام العالمي"، كان بين الحين والآخر يصيح بصوت عالٍ: أنا المنقذ، اقتربت منه وسألته: "إلى أين تمضي يا سيادة الرئيس؟"، فابتسم وقال بثقة المهووسين في التاريخ: "إلى حيث لا يسألني أحد، ولا يطالبني أحد بالمحاسبة"، ثم ارتقى الى سحابة برتقالية وكتب في السماء تغريدة أخيرة: "وداعا أيها الفاشلون، انتهى العرض، أنا ذاهب لأجعل الجنة عظيمة"، وفجأة تعثّر بحذائه الذهبي، وسقط بين مجموعة من الغيوم التي بدت كتلك التغريدات القديمة، وبدأ بالصراخ: "احذفوا حسابي قبل أن يسقط التاريخ"..

رأيت الدنيا وقد أسدل عليها ستار من الصمت، بعد أن اختفى ذلك الظل البرتقالي الذي طالما حجب عنا أشعة الشمس، نعم لقد اختفى ترمب، ورأيت العالم وقد ارتدى ثوبا جديدا بعد أن اختفت تغريدات منتصف الليل، وعادت ربطة العنق الطويلة إلى حجمها الطبيعي، والسياسيون يتحدثون في المؤتمرات بلغة البشر العاديين، دون صياح أو شتائم، وسلام حقيقي في غزة وأوكرانيا و...، فيما التلفاز قد عادت إليه نشرات الأخبار الهادئة ولم يعد هناك من يصف الخبر بـالكاذب، وهو ينقل صورا لحمامة سلام قد حطت على أسوار البيت الأبيض بسلام، فلم يطردها أحد ولم يبني حولها جدارا

استيقظت فجرا متعرقا وبين الحلم والواقع وشعرت أن هناك نبوءة قريبة وكأن الغيب انكشف لي وتجلت لي الحقائق كالشمس في رابعة النهار، ثم انتابتني نوبة من الضحك وأنا أتساءل مع نفسي، هل فعلا يمكن أن يرحل ترمب؟.. رددت في نفسي: "ربما تكون الرؤيا مجرد حلم، أو ربما تكون نبوءة".. لقد كانت رؤيا عجيبة، وربما هو أحد الكوابيس التي تزورني بعد تناول وجبة من الطعام البارد في منتصف الليل، فقد رأيت النهاية، نهاية ذلك الصوت الذي كان يعلو فوق كل الأصوات، ونهاية اللون البرتقالي الذي طالما شككت أنه نتاج خلطة كاتشاب مع مايونيز، فالرؤية واضحة، حيث تنذرني بأن عام ٢٠٢٦ سيستيقظ خاليا من ترمب ومن تغريداته التي كانت تهزّ البورصات أكثر مما تهزّ الضمائر، وسيترك خلفه سجلا من الضجيج وعدسات الكاميرات وعلب فارغة من أقنعة البهجة الانتخابية، وسيصمت ذلك الصوت الذي اعتدنا على سماعه في الفجر والغروب، سترحل وفي جيبك آخر تغريدة تقول فيها إنك أفضل رئيس في التاريخ، بينما يسخر منك التاريخ ويضع يده على جبينه ويقول" "اللهم اكفنا شرّ الممثلين الذين دخلوا السياسة".

ستترك وراءك حسابا مفتوحا بمليارات الدولارات المسروقة من قوت الشعوب التي دفعت الفاتورة بالدم والدموع والخبز اليابس، بسبب قراراتك التي اتخذتها في غرف مغلقة دفعت ثمنها باهظا شعوب لم يسألوا يوما عما يريدون، سترحل يا من تحدّث عن الحرية وهو يضع الأصفاد في أيدي الأمم، وتحدّث عن السلام وهو يوقّع على صفقات سلاح، لتبقى في عنقك دماء الكثير من الأبرياء، دماء أريقت على مذبح المصالح باسم الحرية، فكم مرة لوّحت بالسلام وأنت تحمل صاروخا مزيّنا بعلمك وعبارتك الشهيرة هذا دفاع عن الديمقراطية.. سترحل يا صانع الحروب ومهندس المجازر باسم السلام، يا من أهدى العالم صفقات مسمومة وجدرانا لا تحمي إلا غرورك، لتبقى صورك في الذاكرة ككابوس يرتدي بدلة فاخرة وربطة عنق طويلة جدا، حتى ظنّ الناس أنك تخنق نفسك بها رويدا رويدا.

سنستيقظ ذات صباح لنكتشف أن العالم أصبح يشبه فصلا دراسيا بعد انتهاء الحصة الصاخبة، سنستيقظ ونردد: "وداعا ترمب"، أيها الرئيس الذي ظنّ نفسه نبيّا آتيا بالخلاص، والملياردير الذي خلط بين البيت الأبيض وغرفة تجميل شعره، سترحل قبل أن يكمل هذا العام دورته لأن الكون، حتى الكون، ضاق من تسريحاتك السياسية وقراراتك التي تشبه إعلانات الوجبات السريعة، فهي كثيرة مزخرفة ومليئة بالدهون المهلكة، سترحل وفي عنقك دماء تكفي لتلوين أطلس العالم باللون الأحمر، من غزة إلى كابل، من بغداد إلى خاركيف، وإلى أيّ مكان شممت فيه رائحة النفط كنت هناك تلوّح بيدك وتقول بابتسامة عريضة: "إنها من أجل السلام"، أيّ سلام هذا الذي يصنع بقنابل ذكية وصواريخ غبية؟

قبل أن ينقضي العام، سنقول وداعا أيها الحلم الأمريكي الذي استيقظ منه العالم على كابوس طويل، وداعا أيها الرئيس المغرور، المهووس بالعظمة، أيها البائع الأكبر للأحلام المستعملة، يا من جعل الحروب صفقات والمآسي إنجازات وحوّل العالم إلى برنامج تلفزيوني عنوانه من يريد أن يصبح كارثة، وجعل من الخريطة مسرحا لصور يجمعها في ألبوم بعنوان "انتصاراتي"، وترك خلفه تركة من الدمار وحسابات بنكية تتنفس فوق جثث الشعوب، فكم هو جميل أن ترحل أخيرا وتأخذ معك مؤتمراتك المملة، وتغريداتك المفخّخة، وابتسامتك التي تشبه إعلانا لمعجون الأسنان بعد مجزرة إعلامية.. وسيذكر التاريخ أنك أحدثت ضجة، لكنه لن يكتب أنك تركت بصمة خير، سيذكرك كفقاعة سياسية ارتفعت سريعا، لأنها كانت مليئة بالهواء الساخن، ثم انفجرت بصوت عالٍ، لتترك خلفها صمتا مثقوبا برائحة الرماد، وسيكتب المؤرخون على قبرك السياسي، "هنا كان هنا يرقد رئيس ظنّ أن الضجيج يصنع المجد فصنع الخراب بدلا منه"، وسيذكرك الناس كما يذكرون الأعاصير، تدمّر كل شيء ثم ترحل، سترحل وتبقى ذكرياتك تسبب الضحك للتاريخ، أما الشعوب فستبقى تحمل جراحها وذاكرتها وتنتظر فصلا أقل ضجيجا وأكثر محاسبة.

أما أنا، فسوف أبقى أكتب نبوءات تهكمية، لأن في السخرية لذة الحقّ حين لا يكفي القول، فإذا كان في هذه الرؤية "أو النبوءة مجازا" بعض من الحقيقة، فلتكن الحقيقة قاسية على من ظنّ أن التاريخ يقبل أن يكتب بصيغة واحدة، ولكن ينبغي الحذر، فهذه النبوءة قد تتعرض للهجوم، وسيقولون إنها رؤيا كاذبة، وسيتهم صاحبها بالهرطقة، وأنه يحلم بعالم أفضل، فإن تحققت النبوءة فقولوا كان هنا مهرطق مجهول، وإن لم تتحقق فقولواعلى الأقل حلمنا بلحظة سلام، واعتبروا صاحب الرؤية مجرد كاتب كوميدي حاول أن يصنع ضحكة في زمن اليأس، ليشهد التاريخ أن إنسانا مجنونا كان يجلس في زاوية من زوايا العالم وتجرأ على الحلم بعالم أكثر هدوءا.

فإن كان رحيل ترمب حلما فدعونا نحلم معا، ولننتظر عام 2026، حيث عالم نستيقظ فيه على أخبار عن اتفاقيات سلام، بدلا من تغريدات الساعة الثالثة فجرا، ولنراهن أن ترمب لن يعد تغريدة يهاجم فيها هذه النبوءة ويصفها بـالخبر الكاذب.

 

 


مشاهدات 52
الكاتب جليل إبراهيم المندلاوي
أضيف 2025/11/10 - 7:42 AM
آخر تحديث 2025/11/10 - 9:44 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 360 الشهر 6799 الكلي 12368302
الوقت الآن
الإثنين 2025/11/10 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير