الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العدالة والسياسة.. جدلية الشعارات والواقع

بواسطة azzaman

العدالة والسياسة.. جدلية الشعارات والواقع

كامل كريم الدليمي

 

منذ أن وُجدت السلطة، وُجدت معها فكرة العدالة بوصفها المبرر الأخلاقي لوجودها. فكل نظام سياسي، مهما كانت طبيعته أو خلفيته، لا يتردد في رفع شعار العدالة، وكأن هذا الشعار هو المفتاح السحري لقبول الناس وخضوعهم. غير أن الواقع كثيرًا ما يُظهر أن العدالة في السياسة ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة توظَّف في لحظة الحاجة، ثم تُهمَل حين يتحقق الهدف.

فالسياسي، في سعيه إلى السلطة، يدرك أن الناس لا يمنحون ولاءهم إلا لمن يَعِدُهم بإنصافٍ طال انتظاره، وبميزانٍ لا يميل. وهكذا تتحوّل العدالة إلى خطابٍ جذّاب، إلى وعدٍ مريحٍ يلامس ضمير المواطن المرهق، وإلى ضوءٍ في آخر النفق، لكنه في الحقيقة رماد يُرشّ على العيون — رمادٌ يخفي الحقائق مؤقتًا، حتى إذا انقشع، وجد الناس أنفسهم في الظلمة ذاتها، وربما في ظلمة أعمق.

السياسة، في جوهرها، تقوم على الموازنة بين المصالح، بينما العدالة تقوم على مبدأ المساواة في الحقوق والواجبات. بين المصلحة والمبدأ يكمن التناقض الأزلي: فحين تتعارض العدالة مع المصلحة، تميل كفة الساسة دومًا نحو ما يضمن بقاءهم في الحكم، حتى وإن كان ذلك على حساب القيم التي أوصلتهم إليه. وهكذا تتحوّل العدالة من مشروعٍ أخلاقي إلى أداةٍ خطابية، ومن غايةٍ إلى وسيلةٍ وقتية، ومن مطلبٍ شعبي إلى غطاءٍ سياسي.

عدالة اجتماعية

كم من زعيمٍ أو حزبٍ أو حركةٍ رفع شعار العدالة الاجتماعية، والعدالة الانتقالية، والعدالة بين الطبقات، حتى ملّت الآذان من تكرار اللفظ، لكنّ التطبيق ظلّ أبعد ما يكون عن الحقيقة. فالعدالة لا تُقاس بما يُقال، بل بما يُمارَس. والسياسيون في كثيرٍ من الأحيان لا يحتاجون إلى تطبيق العدالة بقدر ما يحتاجون إلى إيهام الناس بوجودها. فالوهم أحيانًا أكثر نفعًا في تثبيت الحكم من الحقيقة ذاتها.

العدالة في مفهومها الأصيل ليست مساومة ولا تفضّل طرفًا على آخر. إنها موقف أخلاقي ثابت لا يعرف المجاملة، بينما السياسة بطبيعتها فنّ الممكن والمساومة والتنازل. لذلك، حين تحاول العدالة أن تعيش داخل منظومة سياسية فاسدة أو مصلحية، تُصاب بالاختناق. تُفرَّغ من مضمونها، وتُعاد صياغتها بلغةٍ تُرضي الأقوياء، لا المظلومين. وهنا تبدأ المفارقة الكبرى: العدالة تُرفع شعارًا من فوق المنابر، بينما تُدفن في دهاليز القرار.

ولعل أخطر ما في الأمر أن الشعوب، حين تصدّق تلك الشعارات، تدخل في حالة “عمى وقتي” كما لو أنها تحت تأثير دخانٍ كثيف من الكلمات الجميلة. تتوهم أن العدالة قاب قوسين أو أدنى، فتسكت على الظلم، وتصبر على الفساد، وتغضّ النظر عن الانحرافات، انتظارًا لوعدٍ لا يأتي. وحين تنقشع الغمامة، يكتشف الناس أنهم صاروا خارج منظومة العدالة ذاتها — مجرّد متفرجين على مسرحٍ تُعاد فيه الأدوار، لكن الأبطال لا يتبدّلون.

إن العدالة ليست هبةً من الحاكم، ولا منّةً من السياسي، بل هي حقٌّ طبيعي يولد مع الإنسان. وكل نظامٍ يجعل منها سلعة انتخابية أو شعارًا ظرفيًا، إنما يمارس أبشع أنواع الخداع. فالعدالة لا تتحقق بالبيانات، بل بالمؤسسات والقوانين المستقلة، وبالضمير الجمعي الذي يرفض الظلم مهما كان مبرره السياسي.

إن جدلية العدالة والسياسة ستبقى قائمة ما دامت السلطة قائمة. ولكنّ الأمل يبقى في وعي الناس، في قدرتهم على التمييز بين العدالة الحقيقية وعدالة الشعارات، بين من يمارسها كقيمة ومن يستخدمها كوسيلة. فالسياسة قد تخدع، لكنها لا تستطيع أن تخدع الوعي المستيقظ طويلًا. وما من أمةٍ نهضت إلا حين أدركت أن العدالة لا تُمنح من فوق، بل تُنتزع من تحت، وأنها ليست أداةً للوصول إلى السلطة، بل هي أساس وجودها ومصدر شرعيتها الحقيقي .

 


مشاهدات 72
الكاتب كامل كريم الدليمي
أضيف 2025/11/03 - 3:26 PM
آخر تحديث 2025/11/04 - 5:28 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 149 الشهر 2478 الكلي 12363981
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/11/4 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير