رحلتي إلى الصين.. شعب يعلّم العالم بناء الأوطان
حاكم الشمري
منذ أن بدأت رحلتي إلى الصين، كنت أشعر أنني أسير نحو عالم يختلف عن كل ما عرفته من قبل، بلاد بعيدة في الجغرافيا لكنها قريبة في الروح، تمتزج فيها الحكمة القديمة بالحداثة المبهرة، وتتنفس من قلب التاريخ بينما تمشي بخطى سريعة نحو المستقبل.
أول ما شدّني هناك كان الشعب الصيني، ودود إلى حدٍّ يفوق الوصف، طيب المعشر، محب للحياة. لم أشعر للحظة أنني غريب، بل كنت واحدًا منهم بابتسامتهم الدافئة وترحيبهم الصادق. جئت إلى الصين لأشارك ضمن برنامج تدريبي عن إدارة الفعاليات الثقافية في المتاحف، ضمن كروب عربي ضمّ زملاء من مصر والسودان والكويت ودول أخرى. كنا نلتقي على هدف واحد: أن نتعلم كيف يمكن للثقافة أن تُدار بروح العصر دون أن تفقد أصالتها.
خلال أيام التدريب، أدهشني النظام والدقة في كل تفصيل، من المحاضرات إلى العروض وحتى توقيت الاستراحة، كل شيء محسوب بالدقيقة. شعرت أنني أمام مجتمع لا يترك شيئًا للصدفة، بل يجعل من الانضباط فنًّا يوميًا. في أحد الأيام، تعرضت لوعكة صحية فحُملت إلى المستشفى. ظننت أنني سأرى المشهد المألوف في مؤسساتنا: ازدحام، أوراق، ارتباك، لكن المفاجأة كانت مذهلة. كل شيء هناك رقمي ومنظّم بدقة مذهلة. جهاز إلكتروني يستقبل المريض، يطلب منه كتابة الأعراض، ثم يوجّهه للطبيب المختص برقم خاص. لا فوضى، لا أصوات مرتفعة، فقط نظام يسير بهدوء وانسياب. خضعت للفحص والتحاليل والأشعة، ثم استلمت العلاج وأنا مطمئن أني في أيدٍ تعرف تمامًا ما تفعل. خرجت من المستشفى وأنا أقول لنفسي: هكذا تُدار المؤسسات حين يكون الإنسان هو الهدف الأول.
ادوات قديمة
واصلت بعدها التدريب بامتنان مضاعف حتى جاءت زيارة متحف الحرير، الذي كان كرحلة عبر الزمن. شاهدنا الأدوات القديمة لصناعة الحرير وكيف تحولت تلك الحرفة إلى صناعة متطورة تبهر العالم. في القاعات كانت الأيدي تعمل بخفة وأناقة وكأنها تنسج الضوء نفسه. هناك أدركت أن نجاح المتاحف لا يقوم على عرض الأشياء فحسب، بل على خلق تجربة حيّة تشرك الزائر في الحكاية.
ثم كانت الرحلة إلى الريف، حيث رأيت بأمّ عيني كيف يُدار العمل الزراعي بانضباط مدهش. لا شبر من الأرض يُترك بلا زراعة، ولا نبتة بلا فائدة. الفلاحون يعملون بصمت ورضا، والحقول تمتد كأنها بساط أخضر لا نهاية له. قلت في نفسي: هكذا تُبنى الأمم حين يتحول الجهد إلى عادة، والنظام إلى فطرة.في الأسواق الشعبية وجدت كل ما يمكن تخيله: من الأعشاب الطبية إلى المخلوقات البحرية والطيور النادرة. فالصينيون يأكلون كل ما في الأرض والماء، لا يعرفون مفهوم الحرام والحلال كما نعرفه، فكل شيء عندهم يُجرّب ويُكتشف. في إحدى الدعوات التي أقامها أصدقاء صينيون، قُدّم لنا طبق من حساء السلحفاة، رمز الاحترام والتقدير لديهم. كان القائم بالأعمال العراقي في السفارة السيد عبد الرحمن إلى جانبي، فابتسم وقال لي هامسًا: “ابتسم لهم ولا تُبدِ دهشتك، فهذا الطبق دليل أنك ضيف عزيز لديهم.” ضحكت بهدوء وتذوقت الطبق وأنا أشعر أن المذاق الحقيقي ليس في الطعام، بل في النية الطيبة التي صنع بها.
ومن أجمل ما رأيت هناك كان قصر الإمبراطور، تحفة معمارية تنطق بالتاريخ. لكن ما أثار دهشتي أنه لا يحتوي على شجرة واحدة. سألت مرافقنا عن السبب فقال: “الإمبراطور كان يخاف أن يستغل أعداؤه الأشجار للصعود عليها والتخفي لاغتياله.” تأملت المشهد وقلت في نفسي: حتى الملوك يعيشون تحت ظل الخوف، فالقوة لا تزرع الطمأنينة، بل القلب وحده يفعل.
أما زيارتي إلى سور الصين العظيم فكانت لحظة لن أنساها ما حييت. يقف السور شامخًا كرمز للعزيمة، يمتد بلا نهاية كأنه يحرس ذاكرة أمة بأكملها. مشيت على أحجاره وأنا أستشعر أنفاس التاريخ وأقول في نفسي: هنا، ارتفعت إرادة الإنسان أعلى من الجبال.وفي ختام الرحلة كانت بكين وشنغهاي، مدينتان تتنافسان على الجمال والحداثة. في بكين كل شيء يسير بإيقاع منظم، وفي شنغهاي الأضواء لا تنام، والسماء تنعكس على النهر كلوحة من أحلام مضيئة. زرت هناك متاحف تعتمد على الذكاء الاصطناعي، تعرض التاريخ بطرق تفاعلية تُشرك الزائر في الحكاية وتجعل من الماضي تجربة حيّة. جلست ذات مساء على ضفة النهر أتأمل الأضواء وأستعيد كل ما رأيته من مشاهد: الطبيب المبتسم، الفلاح المنهمك، الطاهي الذي يقدّم الأفاعي بثقة، والإمبراطور الذي عاش محاطًا بجدران بلا أشجار. كانت الصين كتابًا مفتوحًا على الدهشة، يعلّمني أن الحضارة لا تُقاس بما نملك، بل بما نحسن تنظيمه وحفظه وتطويره.
غادرت الصين وفي حقيبتي ذكريات لا تُشترى، وفي قلبي امتنان كبير لتلك البلاد التي جمعت بين سحر الشرق ودقة المستقبل، بين الصمت العميق والتكنولوجيا الصاخبة. بلاد علّمتني أن النظام ليس قيدًا، بل فنّ في العيش.
ومضة أخيرة
السفر لا يغيّر المكان فقط، بل يبدّل فينا زاوية النظر إلى الحياة. نتعلم من الشعوب ما لا تعلّمه الكتب، ونكتشف أن الإنسان في كل مكان يبحث عن المعنى ذاته: أن يعيش بكرامة، وأن يترك أثرًا جميلاً في طريقه. عدت من الصين أكثر إيمانًا بأننا نستطيع أن نبني أوطانًا تشبه أحلامنا، إذا جعلنا النظام قيمة، والعمل شرفًا، والإنسان مركز كل فكرة وكل إنجاز.