سيّدُ البنفسج
علي ثجيل
(نقطةٌ تكفي
فلاتكثر عليك الحبرَ و الأوراق
كلّ مافي الكون تنقيطٌ له الا الهوى
فاحذر فبالتنقيطِ نَهوي
واسأل العشاق).
هكذا كان يختصرُ نوباتَ العشقِ برغم قدرته العظيمة في الاسهابِ دون رادعٍ لشلالاتِ الجمال التي ترافق حروفَه.
مُظفرْ.. هذا الدرعُ المتجولُ وسطَ الرصاصِ.. وحقولِ الغامِ الحكامِ والغامِ الحياة.. كان شفافاً بروحِه حدّ التسامي حين يعشق.. فهو صاحبُ روحٍ (مكطوعه مثل خيط السمج).. وتذوبُ احتراقاً وسطَ حضرة العشق مِثْلَ (حلاوة الليل).
لمْ تمنعه جذورُه البرجوازية وسلالة الملوك التي انحدر منها.. في أنْ يُشكّلَ مِنْ طينِ الجنوب كل الحروف التي خلّدتْ تاريخَ حزنِهِ.. وحزنِ العشاقِ الذين والفوه على ترابِ القطارات.. مظفر ذلك الغني الذي ادرك مبكراً أنّ الفقراءَ يعشقون بطريقةٍ لا تعرفُ غيرَ البذخ المدوي وسطَ المواعين الضخمة.. رغم الحبالِ التي يربطونها على بطونِهمْ.. مخافةَ أنْ تشعرَ بهم حبيباتهم.. ولطالما سألَ نفسَهُ (كيف يحتاجُ دمٌ بهذا الوضوحِ الى مُعجَمٍ طبقيٍ لكي يَفْهمهْ).
هو مخترعٌ جبارٌ لشخصياتٍ أصبحتْ دلالةً وشعاراً لكل الثوراتِ التي ترعبُ الطغاة.. فكلّ الطغاة المدججين بحبالِ المشانقِ والكواتمِ التي تتأزرُ بها الأذنابُ .. كان يربكهم إسم صويحب ومنجلُهُ.. فما أحدثتْهُ قصيدة (صويحب) في الشارع العراقي يشبه تماماً شعباً يفتقرُ للسيف.. ثم امتلك اسلحةً للدمارِ الشاملِ.. ينسفُ فيها حبالَ المشانقِ والكواتمِ.. بنَغَمٍ موسيقيٍ هادرٍ يخترقُ كلَّ الجدران والعوارض الكونكريتية التي يختفي خلفها الذين يخافون سلاحَ الكلمة.. لأنهم لايمتلكون مضاداً حيويا يقيهم ذلك الإلتهاب الذي سينخرُ أجسادَهم إذ ما قرّرت التناسل الذي ينسفُ متلازمةَ الطُغيانِ التي لايشفوْنَ منها.
هذا الرجلُ االثورة.. والتي سافرتْ شعلةُ حروفِهِ تطوف المُدنَ العربية.. كاسرةً كل حدودَ الجغرافيا.. كعداءٍ يحملُ شعلةَ اولمبيادِ التمرّدِ على القهْر.. ليجوبَ الملاعبَ التي تَزْخرُ بالمخذولينَ.. ليدخلَ عليهم واضعاً مِشْعَلَهُ.. إيذاناً منهُ ببدايةِ لعبةِ التمردِ التي لا تخضعُ لكلّ الكروتِ الحمراء التي تسكنُ جيوبَ الحكّامِ ومراقبي خطوطَ المدنِ التي تنامُ على تعويذةِ آلهةِ الجياعْ.
مظفر.. هذا المارد العظيم بصرخاتِ قصائدِهِ المُدّوية.. هو ذلك الغاندي العظيم.. الذي تشابكَ جلْدُه والعظام.. لكنّ سطوةَ كفِّ حروفِهِ تلاحقُ الجلادينَ حتى قبورِهِم.
لمْ يُسجّلْ التاريخُ صوتاً ساخطاً على الجلادين.. كهذا الرّعْدِ الذي كانَ يسبق هطولَ قصائِدِهِ الرّصاصْ على رؤوسٍ، لا تقيها المضلاتُ المصفّحة.. ولا السقوفُ الكونكريتية التي تغطي هاماتِهم المكشوفة .. كَعَرّافٍ يقرأُ الطّالِعَ لكلِّ مايدور في قصورِهم مِنْ حكاياتِ الموتِ والجوعِ لكلِّ المخذولينَ بِهِمْ.
هو الزاهدُ في حقولِ التّرف.. تُبكيه كفوفَ الفلاحينَ التي رسمَتْ عليها سطوةُ الزمنِ خرائطَ التجاعيد.. لكنّه ناثرٌ لبذورِ الثورةِ فيهِم وسَطَ دمعتِه المخْفية.. حينَ يَجِنُّ الليلُ.. وكأنّه يخبر كلَّ واحدٍ منهم :
(إذا كنتَ حياً بسجنٍ
وإنْ كنتَ حياً بقبرْ
فأنت هنا بيننا ثورة عارمةْ
أيها الناس هذه سفينة حزني
وقد غرق النصفُ منها قتالاً
بما غرقتْ عائمةْ).
حتى في لحظاتِ الموتِ يَشُمُّ رائحَةَ الانتصارِ.. في كفّيهِ وفي كفوفِ الفقراء.
مظفر.. هذا المخترعُ العظيم لأعظمِ اسطورةٍ.. شَكَّلَها مِنَ (الطينِ الحُرّي).. لينفخ فيها حياة.. ترْسمُ تراثَ العراقِ وقصصِهِ وحَكاياه.. والحزنَ المُتجذّرَ في صباحاتِ العراق وبرْدِها الذي تجفلُ مِنْهُ صدورُ النساءِ العاشقات (بِتْلِجْلِجْ الليرة).
حَمَدْ.. هويةُ العراق التي يكادُ يحملُها كلُّ العراقيين.. ليُبْرزونَها كَعلامةٍ للحُزْنِ والفراق.. كي تأذن لهُم القطاراتُ بالصعود.
رَسَمَتْهُ نساءُ العراق بكلِّ خيالاتِهِنِّ المُتَشَعِبَةِ.. فَلكُلِّ حبيبةٍ حَمَدها المُختلف.. لكنّ جَمَعَهُنِّ ذلكَ القطار.. وتلكَ الليرة.. وتلك الضّفيرة التي تُعيدُ لهُنَّ رحلةَ العشقِ الازلي الذي ينْبُتُ مُنذ أولِ ضفيرةٍ يَفْتَحُ عُقَدَها حبيبٌ على رحلةِ السككِ والمحطاتِ التي تزخرُ بها الحياة.
أنجبَ لنا مظفر تلكَ التعويذة الخالدة.. التي يحملها العشاقُ والفقراءُ في جيوبِهم.. وكأنّه يعلم بذلك الخلود الذي سيرافقُ هذه التعويذة.. فجعلَها عنواناً لديوانِهِ (للريل وحمد).
بيْنهُ وبين المحطاتِ وسككِ القطاراتِ علاقةٌ زَحَفَتْ بهوْلِها على ذاكرةِ العراقيينَ.. للدرجة التي أصبحَ فيها قطْعُ التذاكرِ.. مقروناً بصورةِ مظفر التي تقفزُ مِنْ شُبّاكِ قاطِعِ التذاكر.. وكأنّ كلَّ مسافرٍ ينتظرُ قصةً.. أوْ ودّع قصّةً.. حتى كأن عرباتِ القطارِ أصبحتْ في ذاكرةِ العراقيينَ مواطنَ للشكوى ورميِ الهموم.. ليغادرونَها كما ولدتهمْ امهاتهم.. عراةً مِنْ كلِّ شيء الّا مِنَ الحُزنِ الذي يكْسو ملامحَهم التي أرّقَتْها المحطات.
وكأنه يخبرهم أنْ لامفر.. وأنْ الحياةَ برمتها صعودٌ في قطار .. ونزولٌ مِنْه.. ومابينهما رحلةٌ للاسماءِ توثقُها القلوبُ على شبابيكِ العرباتِ.. بحروفٍ سيمسحُها اللاحقون.
فهو مؤمنٌ تماماً بحكمتِهِ وفراستِهِ وهو يخاطبُ القطارَ(دك بيه طول العمر مايشفه عطابي)
وهو مؤمنٌ تماماً بأنّ للمحطاتِ رأيٌ آخر حين يخاطبُ قاصِديها:
(لمْ يعدْ في المحطةِ الا الفوانيس خافتةً
وخريفٌ بعيدْ..... بعيدْ
وتترك حزنَكَ بين المقاعدِ ترجوه يُسْرقْ
تعطي لوجهِكَ صمتاً كعودِ ثقابٍ نَديّ
بإحدى الحدائق
إنْ فرشَتْ وردةٌ عينَها يشتعلْ
وتجاوز خط الحديد
كأنك كل الذين أرادوا الصعود ولم يستطيعوا
أو انتظروا).
كان يرى في المحطاتِ رحلةً لكوكبٍ آخر.. يُخيفه فيه أولئك الحراسُ الليليون الذين يقلبونَ متعاعَ القلوب..لهذا كان يعاتبُ الليلَ فيه ويسْتأمِنَهُ على أسرارِ الدمعِ بلسانِ حالِ العضماء:
(لاتقلب متاعي الحزين أمام الأجانب
فالثياب القديمة مثل البكاء).
كلّما ضاقتْ به روحُه.. صَنَعَ مِنْ أرصفةِ المحطاتِ وطناً يأويه.. لمْ يهادنْ ذاتَ يومٍ أو يساومْ بحرفِهِ.. لذلك جابَ كُلَّ مدنِ الله ومحطاتِها.. والوطنُ يسافرُ معهُ كحقيبةٍ ترفضُ تجديدَ صاحبِها.. أو كمسافرٍ يرفضُ اسْتهلاكَ متاعَهُ الوحيد.. رغْمِ الجّوعِ الكاسِرْ.
مظفر.. هذا البحارُ العظيم.. كان يطلقُ العنانَ لسفينتِهِ دونَ أنْ يفكرَ في سطوةِ الموجِ الذي سيلاقيه.. سفينتُهُ تُبحرُ في عالمِ المجهولِ.. ولا شراعَ يُحرّكُها.. سوى ريحُ إيمانِه العظيم برأسِهِ الذي يحْمِلُ بداخلِهِ أنينَ سَعْفِ النخيل.. كبوصلةٍ تجعلهُ يرْسو في جزرِ الحزنِ التي أدْمَنَ الإقامة فيها.. تلك الريح القادمة مِنْ أقصى النخيل لتقُصَّ اليه حكايا السّعْفِ والأسماء.. وهو يأنُّ:
(لا أزال بأرصفة الليل يا والدي
كل هذي البلاد بأرصفة الليل للشحن يا والدي
غير أني مابعت عودي
ولا مثل شيخ الغناء الرخيص
رقصت بها كلما جاء بغداد وال جديد
كثيرون باعوا
وبقيت مغني المحطات والعربات التي لامصابيح فيها
وأسحب جفنَ الذين ينامون في الذُلِّ
أنظرُ ماذا بأعينِهمْ).
رحَلَ ايقونة الحزن العظيمة.. رحل بحّارُ البحارين.. رحل ملكُ العمْقِ.. رحل الذي يزوجُ نجومَ البحرِ أزواجَها بنجومِ الليل.. رحل سيدُ البنفسج.. رحل الدفتر.. وتركنا خلفَهُ كلماتٍ مبعثرة.. لاتعرف كيف تلمْلمُ روحَها وسَطَ سطورِ المُجدديين.. رحل نحّاتُ أعظمِ صندوقِ عُرْسٍ كانَ يلملمُ خواتِمَ و قلائدَ و رسائلَ العشاق ومناديلَهم التي ترسم أوّلَ قُبلةٍ في سكونِ الليل.. رحل وهو خائفٌ على ذلك الصندوق، (ينباع خردة عشك من تمضي السنين).. رحل حزيناً كعادتِه في كل تفاصيل روحِه وأيامِه التي عاشها.. رحل وهو يعْلمُ أنّ هذي البلاد والحزن توأمان.. حيثما يُغلقُ بابٌ للحزنِ.. يفتحُ الله عليها باباً آخرَ أشدَّ حزناً.. كان يرددُ دوماً:
(الحزنُ يجيءُ مع الريحِ وماءِ الحنفيات
وضوضاءِ الطرقات).
كان مؤمناً أنّ النهايات لاتختلفُ.. و أنّ عمرَه الذي كان خارجَ تغطيةِ الأوطانِ.. لنْ تُعيدهُ أشارةٌ لاسلكية في نهايةِ العمرِ.. عاشَ غربتَه وهو يعاتبُ الزمنَ وحيداً:
(في الزمنِ الصّعب
محتملٌ أنّ كلَّ الهواتفِ معطوبةٌ).
رحل قاطعُ التذاكر الذي يَسْطَفُّ العشاقُ طوابيراً.. وهم ينتظرونَ دورهم كي يمنحَهم التذاكرَ قصائداً.. تُعيد عليهم شريطَ الذكريات.. في رحلةِ القطاراتِ التي لاتنتهي.. رحل شريكُ رحلاتِهم وحزنِهم.. وشريكُ حقائبِهم والتذاكر.. رحل ولسان حاله يتمتم:
(أنتَ مِنْ شدّة الحزن والصمتِ تقطعُ تذكرتين لنفسك
تقطع حزنين ... حزنين
تقطع كل القطارات تبيع دموعاً وحلوى
لأنّ القطارَ بلا امرأةٍ أو صديقٍ وأنتَ دخلتَ ليالي الشتاء).
رحل مظفر حزيناً.. كعادةِ أيامِهِ جميعها.. رحل وهو يحملُ في حقيبةِ عمرِهِ آلامَهُ وآلامَ الناسِ الذين أحبّوه.. رحل زاهداً بهذا العالم.. كعادةِ كلِّ الكبار الذين تهرسهم السنون.. حين تتشابك فوضى الوجوهِ التي تنازعُ الكبارَ أماكنَهم.. للدرجة التي يسلبون منهم آخرَ كرسيٍ للجلوس يلتقطونَ فيه أنفاسَهم.. رحل وهو متنبئاً بذلك المللِ الذي يصيب روحَهُ .. والذي افرزتْه فوضى الايام.. فهوالصادحُ العظيم لوصْفِ ذلك الملل حين قال :
(مللٌ يشبه علكةَ بَغِيٍ لصقَتْه الأيامُ بقلبي).
مات سيدُ البنفسج.. وفي نفسِهِ الكثير الكثير.. مات وفي جُعبَتِهِ الافَ القصائدِ التي لمْ تُكْتَبْ بَعْدْ.. والافَ اللوحاتِ التي لمْ تُرْسَمْ بَعْدْ.. مات وفي ذاكرتِهِ الاف القصصِ والحكايا.. والاف الوجوهِ التي ارادَ لها أنْ تكونَ رمزاً لخيالِهِ الذي لايقف عِنْدَ حَدْ.. مات مُخترعُ الرمزيةِ والتّشفيرِ الأولِ في الشعرِ العراقي.. مات وبين كفيه محبرتَهُ ودواتَهُ التي ارادَ بهما تدوينَ كُلَّ ماهو غير مألوفٍ على أرصفِةِ المحطات.
لكّنهُ رحلَ وهو مُتيّقِنٌ أنّ العالمَ بدأ يفرغُ بالتدريج.. حتى آخرَ انسان.. فهَمَسَ لروحِهِ في صَمْتٍ كئيب:
(كنتُ في حاجةٍ لكتابةِ شيءٍ آخيرْ
لمْ يَعُدْ أحدٌ في المحطة).
فكان آخرَ مُسافرٍ تُبْكيهِ القطاراتُ و أرصفةُ المحطاتْ.
رحلَ مُظَفّرْ
فأغلقَ قاطِعُ التذاكرِ شُبّاكَهُ.