الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حين تشرق بغداد بالكتاب

بواسطة azzaman

حين تشرق بغداد بالكتاب

محمد علي الحيدري

 

يا ليتنا كنا معكم، بين الرفوف التي تحمل أسماءً وأرواحًا، نستنشق رائحة الورق والحبر، نُقلب الصفحات كما يُقلب الزمن بحثًا عن سجايا الماضي وغربان المستقبل.

المعرض الدولي للكتاب في بغداد ليس مجرد سوق للكتب، بل مهرجان للذاكرة الجماعية، وموعد لتجديد العهد مع اللغة والثقافة، ومسرحٌ يلتقي فيه القارئ بالمبدع، والباحث بالناشر، والفضول بالمعرفة.

في مشهدٍ مفعم بالبهجة الثقافية، يستعيد المعرض دوره كمنصةٍ للحوار والالتقاء. إنه فضاء يعيد المدينة إلى نفسها، مدينة تسترخي منذ سنوات وتستعيد ببطء ملامحها كعاصمةٍ للثقافة والفكر. وحين تزدحم أروقة المعرض بالناس، تتجلى صورة بغداد كقلبٍ نابضٍ بالأسئلة والأفكار، حيث تُصاغ أدوات فهمٍ جديدة، وتُبنى صداقات معرفية، وتُطرح مشاريع فكرية قد تغيّر مسار نقاشٍ عام أو تفتح بابًا لقراءةٍ جديدة في أدبٍ أو فلسفة أو تاريخ.

أهمية هذا النشاط الثقافي لا تقتصر على قيمته الرمزية فحسب. المعرض هو شريانٌ اقتصادي للناشرين والكتّاب والمترجمين، ومنصة تسويقية لطبعاتٍ لا تجد عادةً مكانًا في منافذ البيع التقليدية. كما أنه مسرح امتحانٍ للذائقة وللقراءة الجماعية: يختبر المستهلكون عناوين جديدة، ويمنح المبدعين فرصة لقاء جمهورٍ لا يُقاس بالأرقام فحسب بل بالمصداقية والحميمية التي لا يوفرها أي متجر إلكتروني بحت.

من زاويةٍ تربوية واجتماعية، يعمل المعرض على استنهاض ثقافة القراءة بين الأجيال، خصوصًا لدى الشباب والأطفال. البرامج المصاحبة من ندواتٍ وورشٍ ولقاءاتٍ توقظ الحس النقدي وتمنح أدوات التعبير.

وبالنسبة للباحثين والمترجمين، فإن المعرض فضاءٌ للتواصل مع نظيراتهم من خارج الحدود؛ تلتقي النصوص بالترجمة، وتتداخل المدارس الأدبية، وتنتقل التجارب.

لكن في عصرٍ يفرض تسارع التكنولوجيا وتغير أنماط الاستهلاك الثقافي، ينبغي ألا يُفهم الاحتفاء بالتقليد كرفضٍ للحداثة. من هنا تأتي الدعوة الحارة لإدارة المعرض — إن لم يكن خيار البيع الإلكتروني متاحًا بعد — أن تُعطي هذا التحول الأولوية: متجر إلكتروني يعرض الكتالوغ الكامل، نظام دفعٍ آمن، خيارات شحن مرنة، وربما آلية طبعة عند الطلب لتمكين القراء في الداخل والخارج من اقتناء نسخ دون عناءٍ زائد. ليس الهدف استبدال اللحظة الحية للالتقاء، بل توسيع دائرة الوصول؛ ليصل صوت بغداد ونتاجها الفكري إلى المغتربين، إلى الطلاب، إلى المكتبات الجامعية، وإلى القارئ الذي لا يستطيع الحضور بسبب ظرفٍ صحي أو سفرٍ أو ضيق وقت.

تطوير منصة إلكترونية مصاحبة للمعرض يمكن أن يُحقق فوائد ملموسة: إيراداتٍ إضافية للناشرين، بياناتٍ تفصيلية عن ميول القُرّاء تساعد على تخطيط الإصدارات، وإتاحة أرشيف فعاليات الندوات والخطب كموردٍ دائم للمهتمين. ويمكن أن تكون خطوته الأولى شراكةٌ مع منصات دفع محلية ودولية، ثم بناء تطبيقٍ بسيط يعرض إصدارات المعرض مع روابط شراء وشحن، يليها توسيعٌ للخدمات لتشمل الكتب الرقمية والكتب المسموعة.

وفي العمق، يغدو المعرض فعلًا مقاوماً للجمود والركود، ومتنفسًا يعيد إلى الحياة إيقاعها الثقافي. إنه إعلان بأنّ الثقافة ليست ترفًا، بل ضرورةٌ تبني مجتمعًا قادراً على التفكير في نفسه قبل أن يفكر في غيره. وبهذا المعنى، فإن كل نسخة تباع، وكل حوار يُعقد على منصةٍ صغيرة في زقاق من أزقة المعرض، هي لحظة استرداد لكرامة المعرفة.

ختامًا: ليتنا كنا معكم ليس تمنّيًا حنينًا فحسب، بل دعوة للتضامن والدعم — ثمة حاجة لأن يوفر المجتمع المدني والقطاع الخاص والجهات المسؤولة بيئةً تجعل من المعرض تجربةً دائمة ومتجددة. ليتنا نكون معكم بالحضور، وبالشراء، وبالكتابة، وباللمسة الرقمية التي تُمكّن من استمرار هذا الفعل الثقافي العظيم. فبغداد حين تقرأ، تشرق.

 

 

 


مشاهدات 28
الكاتب محمد علي الحيدري
أضيف 2025/09/15 - 2:13 PM
آخر تحديث 2025/09/16 - 12:00 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 18 الشهر 10818 الكلي 12028691
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/9/16 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير