الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
علي لفتة سعيد.. الشاعر الذي لا يغادر شعبه، والرائي الذي يسكنه الحرف


علي لفتة سعيد.. الشاعر الذي لا يغادر شعبه، والرائي الذي يسكنه الحرف

محمد علي محيي الدين

 

في الجنوب العراقي، في مدينة سوق الشيوخ، على مبعدة مسافات من حافات تعانق الأهوار، وتناجي الماء بلغة القصب والحنين، ولد علي لفتة سعيد عام 1961، ليبدأ منها مسيرته نحو الكتابة، لا كهاوٍ أو متطفّل، بل كمثقّفٍ عضويّ، تماهى مع شعبه، وأودع في الكلمة وجع الأرض وتفاصيل الإنسان المهمّش. ومن تلك العتبة الجنوبية، انتقل إلى كربلاء، المدينة التي صارت له مستقرًا وملاذًا، لكنها لم تُغادر روحه الشفّافة المشبّعة بأحلام الجنوب، ولا خفّفت من ذلك الوجع المتورّط في لغته.

كائنٌ يكتب بعدّة أصوات.

لعلّ من النادر أن يجتمع الشعر بالسرد، والنقد والمسرح والصحافة في قامةٍ واحدة، لكن علي لفتة سعيد خرق هذا النادر، فكان شاعرًا وقاصًا وروائيًا وناقدًا ومسرحيًا وإعلاميًا، لا يفصل بين أجناسه الأدبية بل يمزجها كما يمزج الألوان في لوحةٍ واحدة، حتى تُطلّ علينا أعماله ببنيةٍ متكاملةٍ تعكس رؤيةً متجاوزة، ووعيًا فنيًا وثقافيًا، يؤهّله لأن يكون صوتًا متفرّدًا في المشهد الثقافي العراقي والعربي.

في ميدان الشعر

شعره ليس تعبيرًا عابرًا عن ذاتٍ أو موقف، بل هو صوغٌ متأنٍّ لرؤى تنبثق من تأمّلاتٍ وجوديةٍ واجتماعية، وقد صدرت له مجاميع شعرية منها: أثر كفي، ..نا ، مدوّنات ذاكرة الطين، أختفي في الضوء. وموسيقى القيامة. في هذه الأعمال تتجلّى لغته الخاصة التي وصفها الباحث وسام منشد، بأنها لغةٌ كثيفةٌ مشحونةٌ بالنداء والنهي والأمر والاستفهام، لغة تتأرجح بين السطح الدلالي العادي وبين البنية العميقة التي تستبطن الإحساس والفكر معًا، وهي قدرة لا يملكها إلّا شاعر عاشق للحرف وعارف بأسراره.

القصة والرواية: سرد الوجع العراقي

لا يكتب علي لفتة سعيد القصص والروايات كما يكتبها الروائيون العابرون للهمّ اليومي. إنه يوثّق الخراب الداخلي، ويؤرّخ لانكسارات الإنسان، ويغوص في تفاصيل النفس البشرية في مواجهة العبث والحروب والخذلان. منذ مجموعته الأولى "امرأة من النساء"، مرورًا بـ "بيت اللعنة" التي فازت بجائزة الإبداع عام 1998، وصولًا إلى روايته اللافتة "مواسم الإسطرلاب" التي قال عنها الناقد حسب الله يحيى إنها لو نُشرت في وقتها لأودت بصاحبها إلى السجن، ظلّ عليّ يقبض على جمرة الواقع بسردٍ لا يخلو من رمزيةٍ ساخرةٍ ووعيٍ طبقيّ مرير.

في ثلاثيته الروائية (الصورة الثالثة، مزامير المدينة، فضاء ضيق) نلحظ تدرجًا سرديًا فريدًا، فالبطل (محسن) يبدأ مشغّلًا لمولدةٍ كهربائية، ثم حفّار قبور، ثم كاتبًا في مؤسّسة للأيتام، وهي تحوّلات ليست عبثية، بل تُحاكي تحوّلات المجتمع العراقي ما بعد 2003. وقد أكدت الباحثة مي جميل شريف في دراستها عن الزمان والمكان في رواياته، أن الكاتب استطاع أن يلتقط أدق تفاصيل الواقع، معيدًا إنتاجه بلغة روائية تخترق الظواهر إلى أعماقها، وتلامس الجرح الفردي والجماعي معًا.

أما رواية "وشم ناصع البياض" فقد نالت اهتمام الناقد حمدي لعطار الذي أشاد ببنيتها الزمنية واستخدامها الماهر للتقنيات السردية في توثيق الخراب الناتج عن الحروب، حيث سبع شخصيات تبحث عن الخلاص، في ظلّ غيابٍ نسوي دالّ على حجم الأثر الاجتماعي للعنف المستمر.

الناقد الذي يفكك النصّ ليراه من الداخل

لم يكن عليّ ناقدًا تقليديًا يصف وينقل، بل كان ناقدًا تفكيكيًا وتحليليًا، يشتغل على البنية، ويعيد تشكيل الرؤية حول النصوص. في دراساته مثل "بنية الكتابة في الرواية العربية" و"فهم الزمن ودلالته في النص السردي" و"بنية الكتابة في قصيدة النثر"، نلحظ انحيازه للعمق والمعنى لا للسطح والانطباع. وقد أكد عدد من النقاد، ومنهم الدكتور عمار الياسري في كتابه اغتراب السرد، أن علي لفتة سعيد استطاع عبر كتاباته النقدية أن يقدّم أطروحات مغايرة عن السرد العراقي، مشيرًا إلى ما يمتلكه من خيالٍ خصبٍ وروحٍ ساخرةٍ ووعيٍ ثقافيٍ مركّب.

كاتب مسرحي وصحفي لا ينفصل عن هموم الناس

كتب للمسرح أيضًا، كما في مسرحيته "المئذنة" التي نشرت في دمشق، وأخرى ( ظلمة.. نصان لمسرحية واحدة" التي نشرت في الاردن، وكتب للصحافة بوعي المثقّف، لا بمزاج المراسل. لم يتخلَّ عن قضايا الناس، بل كان لسانًا لمن لا صوت لهم، وسطرًا حادًا في وجه التزييف. لم يكتب للتسلية، بل للتنوير، ولم يكن مشروعه مشروع فرد، بل مشروع شعب مسكون بالحلم والخذلان.

المثقف العضوي بامتياز

ما يميّز علي لفتة سعيد، ليس غزارة إنتاجه فقط، بل روحه المخلصة، ونبضه الذي لا ينفصل عن نبض المقهورين. إنه صورةٌ حيّةٌ للمثقف العضوي، الذي تحدّث عنه غرامشي، المثقّف الذي لا يعتلي برجه العاجي، بل يمشي في الشارع، ويأكل مع الناس، ويتألّم لآلامهم، ويفرح لفرحهم.

لقد ظلّ علي لفتة سعيد كما هو: رجل الكلمة الصافية، الحرف المتوهّج، القلب الذي لم تُطفئه المحن، ولا هدّه التعب، فكان وما يزال منارةً في زمن العتمة، وشاهدًا أمينًا على تحوّلات العراق في الشعر والسرد والنقد.

في كلّ ما كتب، وفي كلّ جنسٍ أدبيٍ اقتحمه، ظلّ عليّ لفتة سعيد مسكونًا بالبحث عن المعنى، عن الحقيقة، عن الإنسان وسط ركام الخراب. إنه ليس كاتبًا عابرًا، بل هو ذاكرةٌ متوهّجة، وروحٌ منتمية، تستحق أن تُقرأ، ويُحتفى بها.

علي لفتة سعيد


مشاهدات 75
الكاتب محمد علي محيي الدين
أضيف 2025/09/14 - 4:16 PM
آخر تحديث 2025/09/15 - 4:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 110 الشهر 10168 الكلي 11928041
الوقت الآن
الإثنين 2025/9/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير