11 سبتمبر نظاماً متعدد الأقطاب
موسى جعفر
أكثر من عشرين عاماً تمرُ، لكن الدخان لا يزال يُخيم على الأذهان، وصور الطائرات وهي تصطدم بالبرجين التوأمين لم تُمح من الذاكرة. في صباح الحادي عشر من سبتمبر (2001)، لم تكن نيويورك وواشنطن فقط من تتعرض للهجوم، بل كانت فكرة الأمن القومي الغربي بصورته المطلقة، وكانت هيبة القطب الواحد الذي انفرد بحكم العالم بعد سقوط الاتحاد السوفيتي.
في تلك اللحظة، لم يكن السؤال "من فعل هذا؟" فقط، بل كان السؤال الأكثر إلحاحاً "كيف استطاعوا؟". لقد كشفت الهجمات عن ثغرةٍ في جسد القوة العظمى الوحيدة، وبدا وكأن العملاق الذي لا يُقهر، يعاني من نقاط ضعف لم يكن يراها. لم تكن الحاجة إلى الانتقام هي الرد الوحيد، بل كانت البداية الحقيقية لتفكك نظامٍ عالميٍ أحادي.
كان الرد الأمريكي سريعاً. العرب وبالتحديد "المسلمين"، الذين أطلقت عليهم أمريكا "الإرهاب الإسلامي" لذلك شنت الولايات المتحدة "الحرب على الإرهاب"، التي بدت للكثيرين وكأنها حرب على العالم بأسره. غزوتا أفغانستان والعراق لم يكونا مجرد عمليات عسكرية لملاحقة منفذي الهجمات، بل كانا إعلاناً صارخاً عن حقّ جديدٍ تُمنحه أمريكا لنفسها.. حق التدخل الاستباقي، وتغيير الأنظمة، وإعادة تشكيل الجغرافية السياسية لمناطق بأكملها تحت مظلة أو ذريعة مكافحة الإرهاب.
في تلك الفترة، بدا النظام العالمي أحادي القطبية في ذروته. كانت الولايات المتحدة تقود تحالفات عالمية، وتفرض إرادتها على المؤسسات الدولية، وتصنف الدول بين "صديقة" و"معادية". وهنا ولدت أحداث 11 سبتمبر إجماعاً داخلياً أمريكياً وشرعية دولية, وإن كانت هشة لقيادة العالم بيدٍ من حديد.
لكن هذه الهيمنة حملت في طياتها بذور الانهيار. فالحروب الطويلة والمكلفة، اقتصادياً وبشرياً، استنزفت القوة الناعمة للولايات المتحدة. فالعالم بدأ يرى التكلفة الحقيقية لهذه الهيمنة.. الخسائر البشرية، انتهاكات حقوق الإنسان، والفساد في مشاريع إعادة الإعمار. لم تعد "القيادة الأمريكية" تبدو جذابة أو حتى فعالة للجميع.
هذا الفراغ الذي خلفته السياسات الأمريكية، إلى جانب الصعود الاقتصادي الصيني المتسارع، وفر مساحة لدول أخرى لتعيد تعريف دورها على الساحة الدولية. بدأت روسيا، تحت قيادة ضابط في المخابرات السوفيتية فلاديمير بوتين، باستعادة نفوذها الإقليمي والعسكري، متحديةً التوسع الغربي في أوروبا الشرقية. بينما استمرت الصين في نسج شبكةٍ من النفوذ الاقتصادي عبر مبادرة "الحزام والطريق" أو ما يعرف "طريق الحرير"، مقدمةً نموذجاً بديلاً للتنمية لا يرتبط بشروط سياسية غربية.
لم تعد الدول التي تختلف مع واشنطن تشعر بأنها مضطرةً للانصياع. لقد كسرت حرب العراق هذه الهالة، وأظهرت أن القطب الواحد يمكن أن يُعارض علناً، كما حدث من قبل فرنسا وألمانيا في مجلس الأمن.
اليوم، ونحن ننظر إلى الخريطة الجيوسياسية، نجد أن العالم لم يعد ذلك الملعب الذي تُملى فيه قوانين اللعبة من قبل لاعب واحد, لقد كانت أحداث "11 سبتمبر" الصدمة التي أنهت عصر "السعادة الغربية" بعد الحرب الباردة، وأجبرت الجميع على إعادة تقييم مفاهيم الأمن والهيمنة والتعاون.
أما اليوم، فإن الولايات المتحدة وإن بقيت القوة العسكرية والاقتصادية الأولى، لم تعد القوة المهيمنة الوحيدة. إنها تتنافس وتتفاوض مع أقطابٍ أخرى فاعلة: الصين (المنافس الاستراتيجي)، روسيا (القوة المزعزعة للإستقرار)، إلى جانب قوى إقليمية صاعدة مثل الهند.
باختصار، لم تكن أحداث "11 سبتمبر" مجرد هجومٍ إرهابيٍ مروع، بل كانت لحظة تحوّل تاريخية. لقد دفعت الولايات المتحدة إلى تبني سياسات عززت في البداية هيمنتها، ولكنها على المدى الطويل، ساهمت في تسريع وتيرة ظهور نظامٍ عالميٍ جديد متعدد الأقطاب. نظام أكثر توازناً، ولكنه أيضاً أكثر اضطراباً وتقلباً.