الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
يبدو أن ثمة للكاردينال من يراسله..أسطورةُ ميزوفانتي مُتعدد اللغات 


يبدو أن ثمة للكاردينال من يراسله..أسطورةُ ميزوفانتي مُتعدد اللغات 

كريم عبيد علوي

 

ميزوفانتي كاهنٌ عاشَ في القرن التَّاسع عشر وتوفي 1849 ابن نجار بولوني  . وكان عام سنة 1781  في عامه السابع فتى يافعاً يُلازم أباه النجار مساعداً إياه في مهنته في مقعد في الشارع وتتناهى إلى سمعه دروسُ (فاذر رسبابي) المنبعثة من النافذة وهو يدرِّس أولاد الميسورين اليونانية واللاتينية , فحفظ ابنُ النجار تلك التراتيلَ من مكانه , وعندما علم الكاهن بمقدرة الفتى هذه توسل إلى والده أنْ يبعث به إلى المدرسة ليتعلم . فانخرط في دراسة اللاهوت وعلوم الكنيسة وعمل أميناً لمكتبة الفاتيكان , وترقى بعد حين لمرتبة الكاردينال . فهو الى جنبِ لغته البولونية الأم يعرفُ اللغة العبرية والفارسية , والتركية والألبانية , والمالطية والقبطية , والكلدانية واللاتينية و الإسبانية والفرنسية والبرتغالية والصينية والسريانية والأمهرية , و كان ملماً باللغة العربية و عكف على تدريسها ووضع رسالة مُؤلفة في تاريخ العربية . اندهش زوارُ روما القادمون إليها من بعيد بمقدرته العجيبة المنقطعة النظير ؛ فهو يحيط ُ بأكثر من اثنتين وخمسين لغة , و البعض أكد أنه ملم باثنتين وسبعين لغة , وآخرون أصروا أن إلمامه باللغات فاق الثمانين , وأغلب الآراء تقطع بأنه ملم بأكثر من خمسين لغة . لا بل في أحيان يحيط بلهجات اللغة الواحدة المتنوعة ؛ مما أثار دهشة المتحدثين بتلك اللغات , وفي الوقت ذاته أثار ريبة الكثير وشكهم بمقدرته الحقيقية تلك ؛ فقد أصطف الكثير من العلماء ودارسي اللغات الكلاسيكية لامتحانه و التأكد من قدراته اللغوية . لم يدلِ بجواب شاف لكثيرين سألوه عن سر قدرته اللغوية ؛ فهو بعد أن عزاها لهبة الهية منحها إياه الرب  يقول : امتلك ذاكرة جيدة واذناً لاقطة تحفظ ما يُقال بسرعة . كثيرون سخروا من مقدرته وقللوا من قيمتها وشبهوه بالة الاورغن أو الببغاء الذي يردد ما يسمع من دون تمثل لمحمولات تلك اللغات الدلالية والاجتماعية , و مرة رتب بابا الكنيسة الكاثوليكية مكيدة فجمع له عشرات المتحدثين بلغات مختلفة وكلموه مخاطبين إياه في وقت واحد وبسرعة كبيرة وطلاقة بقصد إرباكه وإحراجه وامتحان قدرته الحقيقية , وكان من المستحيل مخاطبتهم والإصغاء لهم في آن واحد لكنه بهدوء وثقة أخذ يخاطبُ كلَّ شخص منفرداً بلغته التي يجيدها مما أذهلهم . ومن قدراته المدهشة تعلمه السريع أي لغة بدون لغة وسيطة تعينه على الترجمة فقط يعتمد قاموس اللغة الذي يريد أن يتعلمها ويدرس وقواعدها . ويُروى عنه أنه يطلب من المصلي الأجنبي الذي لا يعرف لغته في الكنيسة أن يعيد صلاته حتى يتعلمها منه ليتمكن من تمييز إيقاع الكلام ويقوم بتقطيع  السلسة الكلامية في عملية تحليلية حتى يميز بين الأفعال والأسماء والصفات فيتعلمها . ومرة تحدث معه (ستارشفسكي)  باللغة الأوكرانية التي يجهلها فقال له متحدياً هذه الأوكرانية , فطلب منه ميزوفانتي أن يقابله بعد أسبوعين , وبعد مضي المدة استطاع ميزوفانتي أن يحدثه لساعات طويلة بالأوكرانية مما أصابه بالذهول . وكان الكاهن الوحيد الذي يستطيع أن يسمع اعترافات الغرباء الأجانب , ومرة أرسلوا إليه من السجن لاستماع اعتراف شخصين سينفذ فيهما حكم الإعدام ولا أحد يستطيع سماع اعترافهما لعدم معرفتهم بلغتهما , فعكف ميزوفانتي ساهراً ليله لتعلم لغتهما لسماع اعترافهما حتى يطلب من الرب أن يصفح عنهما .

هذه التفاصيل عن حياة ميزوفانتي  وغيرها يسردها (مايكل ايرارد) في كتابه (( وداعا بابل .. البحث عن متعددي اللغة الاكثر موهبة في العالم )) .. ترجمة بندر الحربي نشر .. الدار العربية للعلوم بيروت لبنان .. الطبعة الاولى 2013 . لم يكن مؤلف الكتاب ( مايكل إيرارد) الوحيد من كتب عن سيرة ميزوفانتي بل كتب كثيرون متناولين حياته وقدرته اللغوية العجيبة لكن (مايكل ايرارد) حاول أن يفكك سردية (ميزوفانتي) و تمثلاتها الاسطورية التي لا تبرح الدهشة ويعيد تمثلها بطرق أكثر عقلانية متجاوزاً الانبهار إلى الواقع والممكن ؛ فقد غادر بلاده متجها إلى بولونيا للبحث في مخطوطات ميزوفانتي  وأرشيفه الشخصي الذي تحتفظ به احدى المكتبات  . وقد انتهى إلى دليل قاطع يؤكد إحاطة ميزوفانتي بكل هذه اللغات من خلال البحث في مخطوطاته الشخصية المحفوظة في بولونيا التي هي عبارة عن قصائد كُتِبَتْ بخط يده و بلغاتٍ مختلفةٍ ورسائل بلغات شتى كتبها لآخرينَ ,  ورسائل مختلفة وردت إليه من آخرين . هذه الرسائل كُتِبَتْ بخمس عشرة لغة وكُتِبَتْ بأربع أبجديات ؛ مما يؤكد معرفته بتلك اللغات قراءة وكتابة ؛ فهم يراسلونه ويكاتبونه وهو يتفاعل معهم بلغاتهم الكثيرة , ولكن المؤلف لم يقطعْ بمدى إجادة الكاردينال للغات بمستوى طلاقة ابن اللغة الأصلي وهو أمر لا يشينه ؛ فاللغة تهدف للتواصل و لا يضير المتحدث بلغة أجنبية تلكؤ أو لكنة ما إذا نجح في تجاذب أطراف الحديث مع الآخر بلغته .

أسلوب الكتاب كُتِبَ بتقنيات رواية ما بعد الحداثة في الشروع بالبحث وخوض غمار رحلة طويلة وشاقة ومرهقة في الاستقصاء وتتبع خفايا أمرٍ مجهول نُسِجَتْ حوله الأساطيرُ , والتنقيب عن وثائق وأدلة تعيد رسم صورة الحقيقة الغائبة . يبدأ الكتاب بفصل عنونه المؤلفُ بــ ( متاهة الكاردينال) وهو عتبة نصية موفقة . وكم كنت اتمنى لو حمل الكتاب هذا العنوان بدلا من هذا الفصل .

 والكتاب في ظني المتواضع لا يتحرك أفقياً بل هو مشدود و مأخوذ بدهشة الكاردينال على الرغم من تكريسه لفصول كثيرة ومتعددة يتجاوز فيها ميزوفانتي للبحث عن نظائر معاصرين للمؤلف لا يقلون دهشة من ميزوفانتي التقاهم وحاورهم في كم ما يجيدونه من لغات ومن أبرزهم (زياد فصاح) وهو لغوي لبناني يقيم في البرازيل يجيد أكثر من خمسين لغة  التقاه وحدثه . والمؤلف يراوح مكانه و يعيد إنتاج ما قاله عن ميزوفانتي في فصول لاحقة كرسها لآخرين معاصرين في التنقيب عن حياتهم الشخصية ومحيطهم العملي والأسري والاجتماعي والثقافي وأثر كل ذلك في تعدد اللغات لديهم مستعينا بتقنيات السرد في وصف المكان ورسم الشخوص . لكن مسار التحول في رحلة البحث تمثل بالوقوف عند تجارب وملفات التشريح العصبي لأدمغة متعددي اللغات المتوفين التي لم يصل فيها التشريح لأجوبة شافية لا بل إنَّ التشريح العصبي لأدمغة المعاقين لغويا من المتوفين أضاء جوانب علمية مهمة في تحديد المراكز العصبية المسؤولة عن إنتاج اللغة وفهمها أكثر مما أضاء تشريح أدمغة متعددي اللغات الموهوبين كما يؤكد مؤلف الكتاب نفسه .

ومما سَهَّلَ لمؤلف الكتاب عمله هو اهتمام الغرب بهذه الظاهرة وشيوع الأندية والجمعيات والمنتديات المتعلقة بمتعددي اللغات التي ساعدت الباحث كثيراً وهيَّأتْ له قوائمَ شكلت بوصلة رحلته في سبر هذه الظاهرة اللغوية . إنَّ موضوع متعددي اللغات يضيء فكرةً غيرَ طافيةٍ على السطح يغوصُ إليها المتأملُ وتشفُ عن ثقافة الغرب في احترام الآخر وتعلم لغته لا من أجل دوافع اقتصادية وطموحات في الحصول على فرص عمل لائقة بل هو اللقاء الحميمي بين شعوب وثقافات مختلفة تلتقي عبر السفر والترحال , فرغبة اللقاء والحوار الحميمية بين الأمم الأوربية شكلت دافعاً لتعلم اللغات لديهم 

وإنْ كانْ تلك اللغات تنطق بها شعوب غير متفوقة اقتصادياً وتكنولوجياً ، وواحدة من أهم أهداف الكتاب تمثلت بتخفيف القلق لدى متعلمي اللغات عن طريق الإجابة عن أسئلة مضمرة: كيف يمكن تعلم اللغة بسرعة ؟ ما مستوى الجودة المطلوبة في تعلم مهارات اللغة الثانية ؟ وماهي المعايير المتبعة في ذلك ؟ وهل مستوى الحديث بمعيار ابن اللغة هو المعيار الصحيح ؟ حقاً إن كتاب (نهاية بابل) كتاب جدير بالقراة.

كريم عبيد علوي/باحث وتدريسي بجامعة بغداد / كلية التربية للبنات .


مشاهدات 52
الكاتب كريم عبيد علوي
أضيف 2025/11/22 - 1:02 AM
آخر تحديث 2025/11/22 - 2:12 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 109 الشهر 15532 الكلي 12677035
الوقت الآن
السبت 2025/11/22 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير