الخيانة أو الشفقة مقاربة بين جدلية الحاضر والماضي
عبدالحي العبادي
قد تجبرك الحياة أن تخوض التجربة نفسها أكثر من مرة ولكن يختلف الأنموذج فقط بين قديم وجديد لهذا قد تكون مرغما على تناول وجبة في زمان معين وفي مكان مختلف فتكتشف الفرق بين الطاهي وطيب مايقدمه...
الأرواح تأتلف وتختلف وتحب وتكره وتقبل وتدبر وتقترب وتبتعد وتعاقب وتسامح... فكل معايير العاطفة والإنسانية قد تجتمع وتنصهر في بودقة الحب وبنفس الوقت قد تولد من العواطف المتقدة إنفجارا في ساعة اختلاف وتقاطع في الأفكار والمشاعر لا لشيء إلا لأننا معاشر البشر تحكمنا العواطف والأحاسيس سواء أكانت مؤطرة بأعراف وتقاليد أم دين وثوابت اتفقنا على عدم تخطيها لذلك قد تنجح التجربة العاطفية من أول موقف أو لقاء فينتج عنها سعادة كبيرة تجعلك غارقا في سكرة الحب ونشوتها أو تجري بمد وجزر إلى أن نتلفع برداء الموت فيفارق الحبيب حبيه والزوج زوجته والقريب قريبه وهذا حال الدنيا بتوالي الأمثال وتعدد المواقف والمشاهد...
وقد لا يحالفنا القدر فتفشل التجربة الأولى وينتج عنها انكسارا روحيا وعاطفيا يؤثر على كل التجارب المقبلة في الحياة ولأننا معاشر البشر نؤمن بديمومة البقاء وتناسي الرحيل ونسيان الخطيئة وتصحيح اعوجاج النفس بطريقة الترميم والتعديل كحال العود الرطب والغصن الطري لذلك نتطلع لتكرار التجارب العاطفية ذاتها فالمشاعر كالجمر الذي يغطيه الرماد كلما نفخنا فيه اتقد من جديد وبانت ألسنة الشوق فيه لمن نال مفاتيح قلوبنا فتبقى الأبواب مشرعة والنوافذ مفتحة لحبيب جديد طرق أبواب القلب بأنامل الصدق والوفاء والتضحية والإيثار وكل عنوانات الفضائل التي تتناغم مع مشاعرنا وهي تتوقد بنور الحب...
ويبدأ تحد كبير حين تجري المقارنة بين التجربة العاطفية الأولى التي خلفت هزيمة للروح وما بين التجربة الثانية بدخولها على خط التجربة كشعاع نور يملأ الظلام وتعود معها المقارنات والمقايسات والتفاضلات والفوز عند نجاح التجربة الثانية بالاستقرار والهدوء النفسي وبها يكتب الزوال للسابق ونهاية الماضي الذي أشربنا لوعة الصدمة وانكسارات الروح مؤذنين بعدم الرجوع إلى الوراء أو تذكر الماضي ويكون المستقبل هو النور والإشراقة التي تمثل السعادة والجزاء والنعمة...
ولكن التحدي الأكبر والضياع في دوامة ليس لها بداية ولا يعرف أين تكون نهايتها حين تبقى ذكريات الماضي وإعادة إنتاجه من جديد مع وجود تجربة حب صادقة جديدة في نفس الوقت فقد يكون الطرف الآخر بريء وغير مطلع على تفاصيل التجربة السابقة وتكون الذكريات حاضرة في كل موقف وابتسامة وحركة وسكون وعطر ومجلس وأطلال ديار تصطبغ بألوان الحاضر فلا يمكن نسيان الماضي ولا تخطي الحاضر في تجربة الحب التي هي من دواع الإنسانية وصفة للكائن العاقل الحي...
مع أن التجربة الأولى شريفة نبيلة والثانية كذلك ولسنا بصدد الحديث عن أهل البغي والفجور مطلقا لذلك ينشأ الصراع بين التجربة الأولى والمحاولة لبقائها تحت أي عنوان إنساني قد نطلق عليه الشفقة ومدارة الحال وحفظ المواقف التي كان القلب يتفجر بها حبا حتى ولو كانت ابتسامة من بعيد أو رشفة هواء تخالط رئتك شهيقا وزفيرا بحضرة المحبوب أو غمضة عين تتعانق بها أهداب العيون أو نبضات قلب تكاد تضطرب وهي خارجة عن العرف الطبي في تعدادها فقاعدة الزمكان تتلاشى بحضرة الحبيب فلا مكان يحتويه ولا زمان يستوعبه لأن الساعات والدقائق ليست كحالها في الوضع الطبيعي نعم إنها آيات الحب وبشارات المواقف التي تبقى جذورها عالقة لا تنسى ولا تخبو وكي لا نقطع شرايين الحياة نترك الشفقة تأخذ مأخذها من الروح كي نحتفظ بالماضي ولو بشكل يسير....
ومن جهة أخرى التجربة الجديدة وكل خروج عليها يعد خيانة لا تغتفر ولعب بماء النار إذ لو تكشفت خيوط الماضي لشوهت وجه الحاضر البريء ولتحولت إلى سهام تنفذ إلى قلب التجربة الحديثة كونها مبنية على الصدق في الأحاسيس وصفاء السريرة ووضوح العاطفة ونقائها في تبادل المشاعر التي غرست بطريقة نبيلة وصادقة أيضا...
هنا نحتاج إلى عملية هدم مستمر لمنظومة الأعراف والضوابط الأخلاقية فضلا عن القيود الدينية التي تقف حائلا أمام الفوضى في المشاعر وترتيب الأولويات فالنظام لا يمكنه أن يتوافق مع مبدأ اللانظام وإن كانت عملية التمرد تبدو جميلة لأول وهلة لأنها تبيح لك المحظور وتفتح لك المغاليق وتجد للأخطاء عللا ومسوغات ومبررات ولكنها لا تستطيع أن تبني جدارا للمحبة يمكن أن يعلو وتتكئ عليه بلا ميل أو سقوط في مستنقع الرذيلة....
لذلك جاءت الأديان على اختلافها والقوانين والوضعية تنظم الحياة بطريقة تؤمن حماية الأطراف جميعها من التعدي والاستلاب على حساب الآخر وهذه القوانين والأعراف والشرائع تحمل قسوة عند تطبيقها كي لا تستباح حياة الآخرين ولا يتم التعدي على الأفراد والمجتمعات بدواع أنانية وانتهازية من أجل انتصار الذات ولو على حساب المجتمع بأكمله فهناك من الناس من لا يكتفي بعذابات كل من حوله إرضاء لذاته فقط وتحقيقا لسعادته وحده وكي لا يشاركه أحد في لذته ونشوته التي يريد بقاءها وحرصه عليها وسعادته التي يسورها في مملكته وليذهب الجميع إلى الجحيم....
لهذا تكون مفاتيح الجنة التي يخط حدودها ويرسم معالمها بيد اللاعب الأمهر بمشاعر الآخرين الذي خاض التجربة ذاتها ولكن مع أفراد مختلفين يمرون من بين يديه وهو يقف شامخا يعدهم أرقاما في حياته لاغير وهنا التكرار في التجربة العاطفية قد يكون لأكثر من حالة وندخل معه في دوامة الوفاء للأخر السابق بداعي الشفقة والإبقاء عليه وفاء للماضي ويكون رقما نبقيه إذا ما جد جديد في المشاعر مع مداراة الحالة الجديدة الآنية التي نعيشها ولكن الخيانة تكون هي الشعور المميت حتى ولو ألبسناها ألف حجة وعذر من أجل الإبقاء على الجميع تحت مملكتنا نقلبهم متى ما نشاء وكيف شئنا...
فهل سننجح باللعب على مشاعر الطرفين واستنزاف إنسانيتنا المهدورة؟
ونتحول إلى أفراد تتاجر بمشاعر الآخرين بلا واعز ديني أو أخلاقي أو إنساني...
أم نستطيع تحديد بوصلة المشاعر باتجاه واحد؟
ونكتسب السعادة على حساب الشفقة والرحمة بالماضي؟
لذا حين نطوي الماضي لا يعني أننا سنقسوا عليه لا بل كي نترك له مساحة أكبر من أجل تصحيح المسار وشق طريق آخر بلا تعرجات تستهلك الأرواح وتختصر الزمن حتى ولو كانت عملية نسيان الماضي متعبة ومؤلمة.
وهناك معادلة تسقط التجربة الحديثة من الإعتبار وتجعلها بلا قيمة إذا ما أبقينا على التجارب الماضية لسبب بسيط عند التدقيق والتأمل فيها فلو كانت التجربة الحديثة حقيقية وناجحة لما تركت للماضي سبيلا في الولوج إلى ساحة المشاعر من جديد لهذا يمكن القول أن التجربة الأقوى هي التي تثبت وتبقى على حساب كل الأعراف والتقاليد والضوابط الدينية والأخلاقية بدواع إنسانية ورغبات ذاتية لهذا حين تتكشف الأوراق ينبغي لأهل المروءة الرحيل بصمت حتى ولو سمعوا خلفهم عويلا وبكاء وحين تهدأ عاصفة المشاعر ستجد مكانا للبذر من جديد...
وتلك الأيام نداولها بين الناس...