ميتافيزيقيا البراءة في شعر أنمار العبدالله.. دراسة نقدية برؤى مبتكرة وغير مألوفة
عبدالكريم الحلو
المقدمة :
* في عالم يختلط فيه الضوء بالظل، والصدق بالمكر، تظهر البراءة ككوكب غامض يدور في فلكه الخاص، لا يخضع لقوانين البشر ولا لجاذبية العالم المادي.
* إنها ليست زهرة تتفتح في الحقول، ولا درعًا يصدّ السهام، بل نسغ خفيّ يفتت الصخور، وطاقة صامتة تحوّل سمّ الواقع إلى نور داخلي يشع بلا صوت.
* في نصك الشاعري المدهش، قدمت يا أنمار العبدالله البراءة كقوة كونية، في قانون وجودي يتجاوز الفرد إلى الكون، يعيد تشكيل العلاقات بين الخير والشر، بين الصوت والصمت، بين الضوء والظلام.
* في هذه الدراسة سنغوص في أعماق هذا البناء الشعري-الميتافيزيقي، مستكشفين كيف تحوّلت البراءة من صفة إنسانية إلى مبدأ أنطولوجي، وكيف نجح النص في تحويل السذاجة إلى مقدّس، والصفاء إلى قانون لا يقهر.
* يقدّم نص “البراءة” للشاعرة أنمار العبدالله تجربة شعرية ذات طبيعة كونية ـ ميتافيزيقية، تتجاوز حدود الوصف النفسي أو الاجتماعي للبراءة لتجعلها كيانًا كونيًا مستقلًا، ذا قوانين خاصة وفاعلية تحويلية في الوجود.
* النص هنا لا يعرض صورة ساذجة أو مثالية للبراءة، بل يرسمها باعتبارها قانونًا أنطولوجيًا يضبط العلاقة بين الخير والشر، النور والظلام، الصوت والصمت.
* في هذه الدراسة سوف أسعى إلى الكشف عن الميتافيزيقيا الشعرية للبراءة كما صاغها النص، عبر قراءة معمّقة تستند إلى مستويات ثلاثة:
* البنية الرمزية،
* الأبعاد الكونية،
* والدلالات الصوفية - الفلسفية.
أولًا: البنية الميتافيزيقية للنص:
----------------------------
* البراءة هنا ليست حالة وجدانية بسيطة أو سلوكًا طفوليًا عابرًا، بل تتحوّل إلى قانون كونيّ يحكم حركة الوجود،
" قانون جاذبية يخصّها وحدها”:
* إعلاء البراءة إلى مرتبة القوانين الطبيعية، لكنها ليست عامة بل خاصة، أي أنها ذات جوهر فريد يتجاوز التفسير المادي
" نسغ خفيّ يفتت الصخور”:
* البراءة هنا قوّة خفية ومغيّرة، تتجاوز مظاهر الضعف لتكون طاقة ميتافيزيقية قادرة على تفتيت ما هو أصلب من الوجود.
* هذا الإعلاء للبراءة إلى مستوى القانون الكوني يعكس تجاوزها لمحدودية الفردية، فهي ليست “حيلة صغيرة” ولا “زهرة”، بل نسغ خفي يفتت الصخور.
* النص يعيد صياغة مفهوم الطهر ليجعله قوة مغيّرة تتجاوز حتى صلابة المادة، وتؤسس لرؤية أنطولوجية ترى في البراءة فاعلية قادرة على خلخلة الوجود الجامد.
ثانيًا: جدلية السمّ والنور (التحويل الكوني)
--------------------------------------
* هذا أحد أهم محاور النص هو تحويل كل كلمة مسمومة إلى طاقة نور:
* كل كلمة مسمومة لا تؤثر مباشرة، بل تنحرف عن مدارها وتدخل في صهر داخلي.
* هذه الصورة ترسم آلية ميتافيزيقية تشبه قوانين التحويل في الفيزياء (الطاقة لا تفنى ولا تُستحدث، لكنها تتحوّل)، وكأن البراءة هي المحوِّل الكوني للشر إلى جمال.
* بهذا، تتحول السلبية إلى نور جديد، في آلية أقرب إلى :
* التحويل الكيميائي - الفيزيائي، لكنها على مستوى شعري ـ ميتافيزيقي.
* هنا تتجلى البراءة كـ مصفاة كونية، تحوّل الشر إلى جمال، وتحوّل الهجوم إلى إبداع داخلي.
ثالثًا: انقلاب القوانين الفيزيائية :
----------------------------
* هنا يذهب النص إلى أبعد من التحويل الرمزي حين يقول: -
* “ جلدها من ضوء يسير عكس الجاذبية”.
* هذه الصورة تكشف أن البراءة ليست فقط متعالية، بل قادرة على قلب القوانين الطبيعية.
* الضربات التي تُوجّه إليها لا تترك أثرًا، بل تتفتّت نيرانها.
* إننا أمام تصور للبراءة كقوة “ميتافيزيقية مضادة للجاذبية”، أي أنها تنتمي إلى مستوى وجودي لا يخضع لقوانين العالم المادي.
رابعًا: المجاز الكوني واتساع الدائرة :
--------------------------------
* النص يتّسع من الجسد الفردي إلى الكوني: “حولها تشكّلت مجرّة”، “هي الكوكب الوحيد الذي يواصل الدوران”.
* البراءة هنا ليست تجربة ذاتية بل مبدأ كوني شامل، تلتف حوله المدارات وتتشكل عبره المجرة.
* بهذا، يخلق النص أسطورة خاصة: البراءة ليست صفة للإنسان، بل كائن كوني يفرض نظامًا بديلًا للعالم.
خامسًا: السذاجة المقدسة والبعد الصوفي
-------------------------------------
* عبارة “سذاجتها المقدّسة” تشكّل مفتاحًا للتأويل الصوفي.
* السذاجة ليست نقصًا، بل هي عتبة للقداسة، إذ تجعل البراءة حالة بكرًا، تقابل المعرفة العقلانية الملوّثة.
* البراءة هنا تتقاطع مع مفهوم الولاية الصوفية حيث الصفاء والصدق والسرّ الداخلي أهم من القوة الخارجية.
* إنها بذرة قمر تنبت شجرة من كوكب لم يولد بعد، أي مشروع غيبي يتجاوز الزمن.
سادسًا: الصفحة البيضاء ومحو الشر
---------------------------------
* في المشهد الختامي: “صفحة بيضاء كانت، تكتب عليها الطعنات، فتذوب الحروف في بياضها”.
* هذا المشهد يرسّخ فكرة أن البراءة ليست مقاومة سلبية بل محوٌ فعّال، يبتلع الشرّ في طهارة أكبر.
* البياض هنا ليس غيابًا، بل حضور مطلق يقضي على إمكانية الشرّ في التنفّس.
* تتحوّل البراءة إلى فضاء محصّن، أشبه بـ”كون سري”، لا يقدر الشر على اختراقه.
سابعًا: الدلالة الفلسفية والميتافيزيقية
----------------------------------
* النص يطرح البراءة كمفهوم أنطولوجي، أي جزء من بنية الوجود ذاته، وليست مجرّد صفة إنسانية.
* فلسفيًا، البراءة هنا تشبه القوة الكامنة عند هيراقليطس التي تحوّل الصراع إلى انسجام.
* وهي أيضًا تقارب فكرة الطاقة البيضاء عند المتصوفة، حيث الشر لا يفنى بالتصدي، بل بالذوبان في نور أوسع.
* النص يمزج بين الميتافيزيقيا والفن الشعري ليؤسس الى رؤية للعالم :
* البراءة هي “الكوكب الوحيد” الذي يواصل الدوران مطمئنًا، أي أن الطهر وحده يمتلك ضمانة البقاء.
الخاتمة :
--------
* إن نص “البراءة” لأنمار العبدالله ليس تأملًا بسيطًا في نقاء إنساني، بل بناء شعري ـ فلسفي يجعل البراءة مبدأ كونيًا له قوانينه الخاصة. فهي:
• قانون جاذبية بديل.
• قوة تحويلية للشر إلى نور.
• طاقة تقلب القوانين الطبيعية.
• فضاء كوني يشكّل مجرة.
• سذاجة صوفية مقدسة.
• صفحة بيضاء تمحو الشر.
* بهذا، يتحول النص إلى ميتافيزيقيا شعرية، تعيد صياغة علاقة الإنسان بالكون عبر مفهوم البراءة، لتجعلها أفقًا أنطولوجيًا دائم الدوران، مطمئنًا، في وجه الشرّ.
* وفي نهاية هذه الرحلة عبر فضاء البراءة، ندرك أن النص لا يصوّر مجرد صفة إنسانية، بل يخلق كونًا متكاملاً، حيًّا، ينبض بقوانين خاصة، لا يعرفها إلا من اختبر قوة الصفاء المطلق.
* البراءة هنا ليست مجرد ضوء صغير في الظلام، بل مجرة كاملة تدور في مدارها الخاص، محمية من السموم، محرّرة من قيود العالم المادي، حاملةً نورًا ينسج من صمت العالم موسيقى خالدة.
* وعندما يغلق النص أبوابه، سيبقى القارئ أمام رؤية صوفية ـ ميتافيزيقية لا تمحى: أن النقاء، مهما بدا هشًا، هو القوة الأعظم، الكوكب الوحيد الذي يواصل الدوران في عالم لا يهدأ، مطمئنًا في وجه كل العواصف.
الدكتور عبدالكريم الحلو
القصيدة :
======
البراءة
التي تسلّحت بها
لم تكن
زهرةً ولا درعًا،
ولم تكن
حيلةً صغيرة،
بل قانون جاذبيةٍ
يخصّها وحدها،
نسغٌ خفيٌّ
يفتت الصخور
ويحوّل صمت العالم
إلى موسيقى.
كل كلمةٍ مسمومة
تُلقى نحوها
تنحرف عن مدارها،
تدور ككوكبٍ تائهٍ
حتى تحترق في غلافٍ لا يُرى،
فتعيد صهرها داخليًا
لتخرج نورًا
لا يشبه مصدره.
جلدها من ضوءٍ
يسير عكس الجاذبية،
يضربونها فيه
فتتفتّت نيرانهم،
ويبقى الضوء حرًّا،
يهمس بلا صوت.
حولها تشكّلت مجرّةٌ
من أصداء مائلة،
ترتدّ فيها نواياهم المشوّهة،
فتظل تمشي بينهم
كظلٍ ينام على أطراف الريح.
سذاجتها المقدّسة
حوّلت خوفها إلى سرٍّ
يشبه بذرة قمر،
ينبت في داخله شجرةً
من كوكبٍ لم يولد بعد،
فتزدهر وحدها،
دون أن يعرف أحد
كيف وصلت إلى النور.
صفحة بيضاء كانت،
تكتب عليها الطعنات،
فتذوب الحروف في بياضها
كما لو لم تُكتَب أبدًا،
وتظل مجرّتها السرّية،
فضاءً لا يقدر الشرّ
أن يتنفّس فيه،
وهي الكوكب الوحيد
الذي يواصل الدوران
مطمئنًا.
الشاعرة أنمار العبدالله
@highlight
#نقاد
#مثقفون
#متابعون
#متابعون
#الجميع
#ادباء