التسوية والتعديل في خلق الإنسان: قراءة قرآنية بضوء العلم
محمد عبد الجبار الشبوط
يقول الله تعالى:
﴿يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ (8)﴾ [الانفطار].
هذه الآيات الكريمة تُرتِّب مراحل الوجود الإنساني في ثلاث حلقات مترابطة:
1. الخلق: وهو الإيجاد من العدم، أي بداية ظهور المادة الحية من الأرض.
2. التسوية: إعطاء الكائن صورته ووضعه في هيئة مناسبة للحياة.
3. التعديل: وهو التغيير والتحسين التدريجي عبر صور متعددة حتى الوصول إلى الإنسان العاقل (Homo sapiens).
هذه القراءة تسمح بفهم التطور بوصفه سنّة إلهية في الخلق، لا تنفصل عن “الكرم الإلهي” الذي هدى الكائن نحو اكتمال الصورة الإنسانية.
من الطين إلى الخلية الأولى
القرآن يقرر أن أصل الإنسان من طين: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ﴾ [المؤمنون: 12].
العلم الحديث يؤكد أن أصل الحياة بدأ من مواد كيميائية أولية في بيئة مائية غنية بالعناصر، أي من “سلالة من طين”. ومن تلك الخلية البدائية ظهرت مسيرة طويلة من التطور.
مرحلة الرئيسيات المبكرة
قبل نحو 7 ملايين سنة ظهرت الكائنات التي تشترك مع الإنسان في الأصل، مثل Sahelanthropus وArdipithecus. هذه المخلوقات كانت تسير أحيانًا على قدمين، وأحيانًا على أربع، تمثل بدايات “التسوية” في المشي القائم.
مرحلة Australopithecus
منذ 4 ملايين سنة ظهر Australopithecus في شرق إفريقيا. هنا نجد “تسوية” أكثر وضوحًا:
• قامته أكثر اعتدالاً.
• دماغه أكبر من أسلافه.
• يديه أكثر حرية لاستعمال الأدوات.
كأننا أمام حلقة من حلقات ﴿فَسَوَّاكَ﴾.
مرحلة Homo habilis وHomo erectus
• Homo habilis (الإنسان الماهر) قبل 2.5 مليون سنة: بدأ باستخدام الأدوات الحجرية.
• Homo erectus (الإنسان المنتصب) قبل 1.8 مليون سنة: مشى منتصبًا تمامًا، وانتشر خارج إفريقيا، واستخدم النار.
هنا نلمس “التعديل” ﴿فَعَدَلَكَ﴾ أي التهيئة التدريجية لمنزلة أعلى.
مرحلة النياندرتال والإنسان العاقل
• نياندرتال: قوة جسدية، استخدام الأدوات، ربما بدايات اللغة والطقوس.
• Homo sapiens (الإنسان العاقل) قبل 200 ألف سنة: دماغ متطور، لغة رمزية، فنون، ووعي ذاتي.
هذه المرحلة تمثل اكتمال صورة الإنسان التي شاءها الله: ﴿فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ﴾.
التكامل بين النص والعلم
• النص القرآني لا يحدد “عدد الصور” ولا أسماء المراحل، لكنه يقرر مبدأ الخلق ثم التسوية ثم التعديل.
• العلم يكشف تفاصيل تلك الصور: من Australopithecus إلى Homo sapiens.
• وفي النهاية، يذكّر القرآن الإنسان بألا يغترّ: فكل هذه الرحلة الطويلة ليست من فعله، بل من ربّه الكريم.
خاتمة
القرآن الكريم حين يصف الإنسان بأنه مخلوق “مسوّى” و”معدَّل” عبر “صور” متعاقبة، فإنه يفتح الباب أمام فهم التطور بوصفه عملية إلهية موجهة، غايتها الوصول إلى الكائن الذي وُهب الحرية والعقل والضمير. ومن هنا يصبح العلم مكمّلًا للقرآن، لا منافسًا له؛ إذ يوضح لنا كيف جرت عملية التسوية والتعديل، بينما يذكرنا القرآن لماذا جرت: ليكون الإنسان خليفة في الأرض.
#الفهم_الحضاري_للقران