إنخفاض إنتاج حليب الجاموس يهدّد مائدة العراقيين بالقيمر
الأهوار تتحوّل إلى صحراء وسكانها يهاجرون بحثاً عن الماء
بغداد - قصي منذر
تواجه الأهوار الجنوبية، موطن الجاموس المائي منذ آلاف السنين خطر الفناء، بعدما تحولت مساحات القصب إلى أرض متشققة قاحلة، والجواميس تنفق عطشاً وجوعاً، فيما يهاجر سكانها تاركين خلفهم ثقافة سومرية موروثة ومائدة عراقية مهددة بفقدان قيمرها الشهير.
ويقول أهالي أهوار الجبايش إن (حياتهم التي استمرت آلاف السنين على تربية الجاموس وصيد الأسماك باتت مهددة بالزوال)، وأضافوا إن (الماء اختفى منذ خمس سنوات متواصلة، بعد أن كان الجفاف في الماضي لا يستمر أكثر من عام أو عامين)، مشددين على القول إن (الهور انتهى ومات، بعدما تحولت مساحات القصب الطويل إلى أرض قاحلة متشققة، حيث يسجل العراق أشد موجات الجفاف منذ عام 1933).
موت بطيء
ولفت الأهالي إن (عشرات الآلاف منهم يقفون عاجزين أمام الموت البطيء لمصدر رزقهم)، مؤكدين إن (قنوات مائية محدودة قامت السلطات بتعميقها لا تكفي لإنقاذ ماشيتهم، حيث تنفق الجواميس واحدة تلو الأخرى بسبب المياه المالحة والراكدة)، وعزا الأهالي ما يجري إلى (تغيّر المناخ وقلة المتساقطات وارتفاع درجات الحرارة، فضلاً عن السدود المقامة في دول الجوار، بينما تعاني مناطقهم من غياب العدالة في توزيع المياه داخل العراق)، وأضافوا إن (الأهوار التي أعيد إحياؤها قبل عقدين تقلصت اليوم إلى 800 كيلومتر مربع فقط من أصل آلاف الكيلومترات، ما يدفع الأسر إلى الرحيل وترك أرض الأجداد).
محذرين من إن (استمرار الأزمة سيؤدي إلى خسارة تراث ثقافي عميق الجذور، وإلى اندثار التنوع البيولوجي الذي يميز مناطقهم، كما إن أنواع الأسماك والطيور تراجعت بشكل كارثي، وأن صحة الجواميس تدهورت بفعل الملوحة والتلوث ونقص المياه، حتى بات إنتاج الحليب، الذي تعتمد عليه صناعة القيمر لا يغطي سوى جزء ضئيل مما كان عليه في السابق)، وأوضح الأهالي إن (بقاءهم في هذه الأرض أصبح معجزة في ظل انعدام مصادر الرزق والدعم، وأنهم يخشون أن يكونوا آخر جيل يورّث تربية الجاموس التي ارتبطت بذاكرة وتاريخ الأهوار منذ آلاف السنين).
من جانبه، قال الطبيب البيطري وسام الأسدي (بأسف كنّا نمتلك 48 نوعا من الأسماك، والان تبقّى لدينا أربعة منها فقط)، مضيفا (كان عندنا سابقا 142 نوعا من الطيور البرية، حاليا لم يعد هناك إلّا 22). ويتعاون الأسدي مع منظمة أغرونوم إيه فيتيرينير سان فرونتيير الفرنسية غير الحكومية، للاهتمام بالجواميس ومعالجتها في ظلّ موجات الحر. ففي الصيف، يحتاج الجاموس أن يبقى في المياه لمدة تزيد عن 14 ساعة وأن يشرب عشرات لترات الماء. غير أن عدم تبدّل المياه بسبب قلة التدفق يسبّب زيادة في الملوحة والتلوث.
وأوضح الاسدي أمس إن (صحة الحيوان تتأثر بكلّ ذلك، فالحيوانات التي كان وزنها 600 كيلوغرام مثلا أصبحت تَزن حاليا 300 أو 400 كيلوغرام فقط)، مؤكداً (تضعف مناعتها وتزداد إصابتها بأمراض).
انقراض الجواميس
وحذّر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في تقرير في تموز الماضي من (خطر انقراض الجواميس المائية في الأهوار الجنوبية العراقية في حال لم يتمّ اتخاذ تدابير عاجلة للحفاظ على هذا النوع)، وأشار إلى إن (أعداد الجواميس المائية انخفضت بسرعة بسبب ندرة المياه، من 309 آلاف رأس في العام 1974 إلى 40 ألف رأس بحلول العام 2000).
ومن تداعيات ندرة المياه التي تحتاج اليها الجواميس بقوة، تراجع إنتاج حليب الجواميس المستخدم في صناعة الجبن، ولاسيما قشطة القيمر السميكة التي غالبا ما يتناولها العراقيون خلال وجبة الفطور، إلى الثلث. وقبل عامين، انتقل تويّه فرج (56 عاما) إلى قرية حسجة الصغيرة في محيط الجبايش، حيث منازل ذات جدران خرسانية، وأخرى مبنية من اللبن، توجد قربها جواميس. ويروي الأب لـ16 طفلا (كيف نزح وعائلته طيلة ثلاثة عقود بحثا عن المياه لكي تعيش الماشية، لأنه إذا عاشت الماشية عِشنا، وإذا ماتت الماشية انتهينا). وأضاف الرجل الذي يلفّ وجهه بكوفية (ليس لدينا مصدر رزق آخر، لا راتب ولا فرصة عمل ولا دعم من الدولة). ويعتاش من 30 جاموسا مقابل 120 جاموسا كان يرعاها في بداية مسيرته، وقد باع الرؤوس واحدا تلو الآخر لدفع ثمن علف الماشية المتبقية. وورث فرج، تربية الجواميس من والده وجدّه، لكنه قد يكون هو آخر من يقوم بهذا العمل المتوارث، إذ يعمل الان ابنه البكر في شركة نفط صينية، فيما يعمل ابن آخر سائق حافلة صغيرة.