الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ابتسامة الخميس ودمعة السبت

بواسطة azzaman

ابتسامة الخميس ودمعة السبت

فاصل البدراني

 

هدأت روح الطفل الذي أنهكهُ الشوقُ، كما هدأت أوجاعُ أمه التي لا تملك في هذه الدنيا سواه، بعد تجربة زواج تُعدّ فاشلة لم تدم ثلاث سنوات، خسرت فيها أعظم سند بعد الله، وهو والدها الذي قُتل. فعادت إلى بيت أهلها، بيت يخلو من الأب، عمود الدار، لكنه يفيض بحنان أمّ، وأربعة أشقاء: اثنان في مطلع الشباب، واثنان في عمر الطفولة، وأربع شقيقات.

ومهما قيل عن بيت تمتلئ أركانه بالوالدة والأشقاء والشقيقات، فإنّ فلذة الكبد هو الجرح النازف، وهو المقتل الذي يسكن قلب الأم ويُعطّل منظومة تفكيرها حين لا يكون إلى جوارها.

بعد وجبة العشاء وتناول استكان الشاي، عمّ البيت فرح غامر، بثّ عطره في الأروقة وأنعش الأرواح، بعد اكتمال الأسرة بعودة الطفل الغائب. غير أن سؤالًا حائرًا كان يدور في ذهن طفل لم يتجاوز السابعة من عمره، سؤال أثقل كاهله كمن بلغ السبعين، من شدّة ما واجهه من عصف ذهني أقحمه فيه القدر:

“متى يُرجعني زوج خالتي إلى البيت الذي لم أجد له اسمًا؟”

حاول أن يُهمل السؤال لينام في حضن والدته، متنسّمًا عطر حنانها ودفء احتضانها. وما إن بزغت شمس الصباح، حتى كان الطفل يسابق إشراقتها، صاعدًا إلى سطح البيت ليتفقد الطيور التي غادرها منذ مدة، يخشى أن تكون القطة قد غدرت بها كما فعلت سابقًا حين أكلت طيره “المِسكي القلّاب” العزيز على قلبه.

لم يكن يريد للوقت أن يمر سريعًا، بل كان يتمنى لو توقفت عقارب الساعة طويلًا. لم يُرِد للنهار أن يُسرقه النوم، ولا أن يُبعِده أي عمل عن رؤية وجه أمه وأفراد أسرته، من جدّة وخالات وخوال، خصوصًا خاله الصغير ورفيق طفولته “هاشم”.

وجد نفسه وحيدًا وسط عبث الأشياء، فذهب إلى صديقه وأجبره عبثًا على النهوض، ليُحدّثه بكل الحكايات التي مرت خلال غيابه الذي دام (٣٦ يومًا). وبينما كان يعيش هذه الفوضى الجميلة، دارت عقارب الساعة سريعًا، حتى سمع أذان الظهر. شعر أن الوقت سُرِق منه، دون أن يُشبع الحاجات العالقة في ذهنه.

كان كلما تقدّمت الشمس نحو المغيب، يحزن ويعاتب حركتها السريعة. لماذا تتعجل، بينما في بيت أهله، كانت الشمس تقف طويلًا، عمودية أكثر من وقتها المخصص؟ وقف معاتبًا وكأنه استعار بيتًا من الشاعر خالد عبدالرحمن في قصيدته “أيها الراحلون”:

“ليت الهموم تغيب مع غروب الشمس

وليت الفرج يشرق مع شمس بكرة”

في تلك اللحظات المحيّرة، حدّق بعينيه دون رمشة، نحو امتداد الأرض، البيوت، الحدائق، النخيل العالي، والسماء. ولسان حاله يقول:

“متى تُفرَج عنّي تلك الهموم؟ متى أتحرر من هذه القيود؟ متى أنجو من حرماني من كلّ ما أحببت، وأتخلص من كل ما كرهت؟”

نادوه للغداء. كانت حصته ديك دجاج خاص به، بعيدًا عن حصة الضيف وبقية الأسرة. لكن شهيته كانت مسدودة، فقد شبع من حنان أمه، من عبق الغرفة التي عاش فيها، من نظراته المتأملة لكل غرفة، شجرة، طير، وحتى تلك الغرفة المخزن المخصصة للحنطة والتمر الزهدي، التي كان يصعد فيها على أكياس الحنطة (تُسمّى “فراد” ومفردها “فردة”)، والتي كانت أكبر حجمًا من الكونية أو الكيس.

جلس الجميع على مائدة الغداء، بينما ظل الطفل شاردًا، يتساءل: متى سيعود أبو محمود؟ هل سيبقى؟ أم سيأخذه معه إلى ذلك “البيت بلا اسم”؟

لكن جدته، وقد قرأت تساؤله، تدخلت سريعًا لتجنّب أي كلام قد يُحزنهم ويحرمهم من الغداء، وقالت بحنان:

“جدو، اتغدى هسه ولا تسأل. آني أريدك تأكل من هذا الطعام (المگفّر) بالدهن الحر، إنت صاير ضعيف، وآني أريدك تاكل، تكبر، تتزوج، وتعيش إنت وأمك سوا.”

كلماتها جعلته يغوص في تفكير أعمق:

ما الذي حمّلني مسؤوليات أكبر من عمري؟

ماذا لو كبرت؟ هل سأعود إلى هذا البيت؟

هل سأعيش مع أمي فيه بينما الجميع يكبر ويتزوج؟

متى أكبر وأتحرر من قصتي هذه؟

بدأ الجميع بتناول الطعام، عدا الطفل. كان الغائب الصامت، والتفكير تكوّر في رأسه، بينما العيون تراقبه. ثم، عند شرب الشاي، تجرّأ وسأل زوج خالته:

“كم يوم سأبقى هنا؟”

أجابه الرجل بتردد:

“بكيفك… كم يوم تحب تبقى؟ بعد بَاجر نرجع، ما رأيك؟”

رد الطفل بدموع فاضت من عينيه:

“يعني بس باجر أبقى؟!”

ثم انفجر بالبكاء، فبكى الجميع، حتى “أبو محمود”. وساد صمت ثقيل.

خرج الطفل من الغرفة غاضبًا، متظاهرًا بالرفض، لكنه بقي يُنصت من خلف الباب. سمع زوج خالته يقول:

“أنا طلبت من والده ثلاثة أيام فقط، ثم أُعيده، لأن يريد يسجّله بالمدرسة. الدوام سيبدأ هذا الأسبوع.”

عاد الطفل إلى الغرفة، بان عليه التمرد. قال بحزم:

“لن أسجّل في المدرسة، ولا أريدها. فقط أريد أن لا يحرمني أحد من أمي.”

لكن خاله “أبو طارق”، وكان طالبًا في المرحلة الإعدادية، استدرك الموقف وقال:

“بالعكس، دخولك المدرسة يوفّر لك فرصة تجي تزورنا كل خميس وجمعة. تجي الخميس، وترجع السبت.”

كانت فكرة مقبولة. الأهم عنده أن يبقى يومين بعد، وليس أن يُغادر بعد غد. فوافقوا على رأيه.

ابتسم، ومسح دموعه الجافة، وضحك ضحكة امتزج فيها البكاء بالفرح، قبل أن يطلب من أمه إحضار وجبة الغداء، اعترافًا منه بأنه لم يأكل.

فرح الجميع، وأعادوا له الطعام من جديد.

كاتب وإعلامي عراقي

faidel.albadrani@gmail.com


مشاهدات 37
الكاتب فاصل البدراني
أضيف 2025/08/25 - 2:15 PM
آخر تحديث 2025/08/26 - 3:02 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 94 الشهر 18450 الكلي 11413536
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/8/26 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير