الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
عنف التحديث وقهر الذاكرة في مشروع نقل الشورجة

بواسطة azzaman

عنف التحديث وقهر الذاكرة في مشروع نقل الشورجة

أمل الجبوري

 

في خضمّ ما يُسوّق له بوصفه “المخطط الإنمائي الشامل لرؤية بغداد 2030”، أطلقت أمانة بغداد مشروعًا مثيرًا للجدل يقضي بنقل سوق الشورجة، أحد أقدم وأهم معالم المدينة التجارية والتاريخية، إلى أطراف العاصمة، إلى جانب مناطق صناعية وتجارية أخرى. وقد تم تبرير هذا التوجه برغبة الجهات الرسمية في “تقليل الزخم” وتخفيف “الاختناقات” في وسط المدينة. غير أن هذا المشروع، في جوهره، لا يُعالج الأزمة بقدر ما يعمّق جراح الذاكرة البغدادية، ويهدد مكونًا حيويًا من مكونات الإرث الثقافي للعاصمة العراقية.

الشورجة: قلب بغداد ومفتاح ذاكرتها

 ان سوق الشورجة ليس مجرد حي تجاريّ مزدحم؛ إنه فضاء تاريخيّ، ونسيج روحيّ واجتماعيّ يعود إلى قرون. كانت الشورجة ولا تزال مقصداً لأهل بغداد وكل من يفد إليها من المحافظات الأخرى. عبر أزقتها الضيقة، وخاناتها القديمة، وعطور التوابل والكتب والبخور، كانت بغداد تُروى، لا فقط بالسلع، بل بالقصص، بالأقدام التي تطأ أرضها حاملةً لهجاتٍ متعدّدة، وأديانًا متجاورة، وذاكرةً مشتركة.

وهنا، تكمن الخطورة: إن نقل الشورجة لا يعني فقط إزاحة نشاط اقتصادي من موقع إلى آخر، بل هو اقتلاعٌ للذاكرة، وتجريفٌ للهوية، واستبدال غير معلن لتاريخ بغداد الماديّ والمعنويّ.

التطوير بوصفه عنفاً حضرياً

إن التوسّع العمرانيّ في بغداد، الذي يطرح كحلّ لأزمات السكن والازدحام، غالبًا ما يتمّ على حساب الإرث البيئي والثقافي. ما شهدته المدينة منذ عام 2003 من هدم للحدائق العامة، وابتلاع للبساتين في حزام بغداد، وتحويل الفضاءات الخضراء إلى أبراجٍ سكنيّة، هو جزء من نمط تدميريّ تحت شعار “التحديث”. واليوم، يتكرّر هذا المنطق نفسه مع الشورجة، حيث يُراد للمدينة أن تتحوّل إلى نسخة مشوّهة من مدنٍ أخرى، من دون أن تأخذ خصوصيّتها التاريخيّة والجغرافيّة بعين الاعتبار. فبغداد ليست دبي، ولا ينبغي لها أن تُختزل في مشهد ناطحات السحاب على حساب روحها.

الذاكرة المتعدّدة: من خان الدجاج إلى مثلث الديانات

في قلب الشورجة تقع قصص فريدة تستحق الحماية لا الإزالة. من بينها خان الدجاج، أحد العقارات التي تعود لعائلة يهودية عراقية، ريجينة ساسون، وقد صودر في زمن النظام السابق، ثم طاله الإهمال، مثله مثل عشرات العقارات التي لا تزال عالقة في نزاعات قانونية. إن التعامل مع الشورجة كـ”عقار قابل للتفريغ” يتجاهل البعد الرمزي والإنساني للمكان.

والأخطر من ذلك أن هذه المنطقة تحتضن ما يُعرف بـ”مثلث الديانات”، حيث كان يوجد الكنيس الكبير للطائفة اليهودية، الذي تحوّل لاحقًا إلى مخزن، إلى جانب كنيسة، وجامع الخلفاء، في مشهد فريد من نوعه في الشرق الأوسط. أي مشروع “تحديثي” لا يأخذ هذا التعايش في الحسبان، ولا يصونه، هو في حقيقته مشروع إقصائيّ يُجرّد المدينة من تاريخها التعدديّ.

البديل الحقيقي: التنمية اللامركزية لا تهجير الذاكرة

بدلاً من إخلاء الشورجة وتهميش وسط العاصمة، ينبغي التفكير في حلول تنموية عادلة: توجيه الاستثمارات إلى المحافظات المهمشة، خلق فرص عمل هناك، وفكّ المركزية عن بغداد التي استقطبت سكّانًا فاقوا طاقتها بسبب السياسات الاقتصادية. إن إفراغ العاصمة من معالمها التاريخية بحجة تنظيم المرور، هو خيانة للرؤية الحضارية الشاملة التي ينبغي أن تراعي الإنسان والمكان معًا.

الذاكرة ليست عبئًا، بل موردًا حضاريًا

 ان ما يجري اليوم في الشورجة هو جزء من عملية أوسع تسعى إلى إعادة تشكيل المدينة وفق نموذج لا ينتمي إليها. لكن المدن العريقة لا تُصمم في المختبرات. إنها تنبض بتاريخها، بعمقها، بأزقتها وناسها. والشورجة، بما تحمله من رواسب الزمن، وتعايش الديانات، وحكايات الناس، تستحقّ أن تُحمى لا أن تُرحّل.

 

 


مشاهدات 108
الكاتب أمل الجبوري
أضيف 2025/07/26 - 3:17 PM
آخر تحديث 2025/07/27 - 5:54 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 205 الشهر 17847 الكلي 11171459
الوقت الآن
الأحد 2025/7/27 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير