كُردستان تتحوّل إلى عراقٍ جديد
عدالت عبد الـله
ليس من المستغرب أن نسمع، مع أزمة رواتب موظفي إقليم كُردستان العراق، أصواتًا عربية عراقية عديدة، من عرب كُردستان وأبناء وسط وجنوب البلاد، تناشد حكومة السيد محمد شياع السوداني عبر منصات التواصل الاجتماعي، بإنهاء الأزمة وصرف رواتب موظفي الإقليم.
ولا عجب في أن نرى، ضمن هذه الأصوات، من ينتقد الحكومة الاتحادية على تأخرها في معالجة الأزمة ويتعاطف مع أبناء الإقليم، بل يُذكّر بغداد أحيانًا بالإنجازات العمرانية والتطور والازدهار الذي تحقق في محافظات أربيل والسليمانية ودهوك، وحتى حلبجة، مقارنةً بما أُنجز حتى اليوم في المحافظات العراقية الأخرى، رغم أن ميزانية الإقليم لا تعادل أصلًا ميزانية وزارة اتحادية كوزارة التربية! وقد تم توثيق هذه الإشادة بلغة المقارنة، ونُشرت حقائق مرئية عن أحوال المدن العراقية من ناحية الخدمات الأساسية.
صحيح أن الجميع يدرك وجود فساد مستشرٍ في إقليم كُردستان، تنتقده يوميًا وسائل الإعلام المحلية، ويقر به حتى بعض المسؤولين النافذين، ولكن هناك أيضًا مشاريع إعمار وتطوير للخدمات، حتى وإن كانت محدودة مقارنة بالمراحل السابقة.
بيت القصيد أن العراق اليوم أمام ولادة تدريجية لمواطن مختلف و كائنٍ واعٍ، عينه على عموم البلاد، يقارن بين أحوال الناس بمنطق مدى حرص الدولة والطبقة الحاكمة على إدارة شؤون البلاد بطريقة تُرضي المواطن وتحقق الحد الأدنى من تطلعاته، حتى وإن استمر الفساد وعجزت المؤسسات الرقابية عن الحد منه.
محاسبة فاسدين
المنطلق هنا أن حكومة إقليم كُردستان، رغم أنها لا تتلقى من الميزانية العامة سوى 12بالمئة ، باتت تُجسد نموذجًا مميزًا في العراق من حيث تعمير المدن، وتوفير مياه الشرب الصالحة، واستمرار الكهرباء الوطنية، وتبليط الشوارع، وبناء الجسور، وفتح الجامعات والمستشفيات، وإعمار القرى، وإنشاء المصايف والمتنزهات، وشق الطرق، وما إلى ذلك.هذا التطور والازدهار حاصل رغم استمرار الفساد، ورغم خروج المواطنين من حين إلى آخر في مظاهرات واحتجاجات واسعة تطالب بالخدمات، وصرف الرواتب في وقتها، ومحاسبة الفاسدين. كما تتزايد انتقادات قوى المعارضة والإعلام الحر في الإقليم تجاه الوضع العام، في تعبير عن رغبتهم في المزيد من التقدم، بالنظر إلى ما يمتلكه الإقليم من ثروات وخيرات كفيلة برفاه أي مواطن إذا ما وُزعت بشكل عادل وبعيدًا عن أيدي الفساد والمحسوبية والسرقة. بعبارة أخرى، إن مقارنة المواطن العراقي العربي بين واقع محافظات الوسط والجنوب وواقع محافظات الشمال، تصدر عن وعيٍ جديد لمواطنٍ يسعى إلى عيشٍ أفضل، ويرغب بالبقاء في الرقعة الجغرافية التي يشعر فيها بالأمان والازدهار وحضور الدولة، والحد الأدنى من روح المسؤولية، بحيث لا يُضطر إلى الهجرة وترك الوطن. هذا المواطن هو اليوم من يختار العيش في كُردستان العراق، ويقيم فيها بين أهله وأبناء بلده، ويعمل أو يستثمر، وبالتالي لا غرابة في أن يُشيد بما تفتقر إليه بقية مناطق البلاد. الحقيقة الأخرى، التي لا تُذكر كثيرًا، هي أن عدد العرب العراقيين المقيمين في كُردستان يقترب اليوم من مليون شخص! وإذا كان جزء منهم قد انتقل إلى الإقليم لأسباب أمنية، فإن هذا الجزء نفسه بات يفضّل البقاء فيه حتى لو استقرت الأوضاع الأمنية في المناطق التي غادرها. أما الجزء الآخر، فقد اختار الإقامة في كُردستان طوعًا، ليس فقط بحثًا عن الأمان، بل لشعوره بوجود كيان يخدم مواطنيه.
هذا المواطن العراقي الجديد يساهم اليوم ايضاً في ولادة كُردستان مغايرة، باتت اليوم بمثابة عراقٍ آخر يتعايش فيه الجميع بسلام ووئام: الكُرد والعرب، السنة والشيعة، المسيحيون والتركمان، وكافة الأطياف والطوائف الأخرى. وهذا وحده كافٍ لإضفاء طابع عراقي أصيل على كُردستان، طابع ربما يكون أرقى وأفضل من بقية أنحاء البلاد، حيث التعايش والتسامح وبناء روح المواطنة.