لوثر إيشو .. حين تتنفس المدن من نوافذها
بولص آدم
في الثامن عشر من حزيران كل عام. تمرذكرى رحيل الفنان العراقي لوثر إيشو (1955–2011)، الذي رحل مبكرًا لكن ظلاله ما زالت ممتدة على جدران الذاكرة البصرية العراقية. ينتمي لوثر إلى جيل الفنانين الذين حملوا المدينة في حقائب أرواحهم، لا في إطارات المعارض فقط. كان فنه هادئًا كأنينٍ بعيد، لكنه مشبع بكثافة وجدانية، وبعين ترى التفاصيل الصغيرة لا كمجرد مشاهد، إنما ككائنات تتنفس.
لوثر لم يكن يسعى للفت النظر بالصخب أو التجريب المتطرف، بل آمن بقوة النوافذ، بالحوار الصامت بين الداخل والخارج، بالضوء حين يُخفي أكثر مما يكشف. لوحاته غالبًا ما تحمل ذاكرة موصلية عميقة، لا بوصفها مدينة فقط، بل كفكرة عن الزمن، والانتماء، والهشاشة التي تليق بالمكان حين يصبح أثرًا حيًا.
في أعماله، تتقاطع الحرف اليدوية للرسام الصبور مع روح المراقب الذي لا يرسم إلا حين يرى، ولا يرى إلا حين يهدأ ضجيج العالم من حوله. لقد أنصت لوثر جيدًا لحجارة البيوت، ولباب خشبي قديم وهو يُفتح ببطء، ولظلِّ شجرة يتسلل إلى أرض الغرفة. لذا، لا غرابة أن نرى في لوحته «نافذتان من المدينة القديمة» احتفالاً مكثفًا بالصمت الذي يسكن الحجر، وبالعلاقة الغامضة بين المعمار والذاكرة.
هذه اللوحة، التي نُفذت بأسلوبه المعروف المتوازن بين التعبير الحسي والوضوح الشكلي، تقدم مشهدًا لحكاية معلّقة. إنها ليست فقط مجرد تصوير لنافذتين في بيت موصلي قديم، هي مرآة مزدوجة: واحدة تطل على الخارج، وأخرى تنفتح إلى الداخل العميق للذاكرة.
في الذكرى الرابعة عشرة لرحيله، نقف أمام هذه اللوحة لا بوصفها عملًا بصريًا فحسب، بل كبوابة نحو عالم كامل من الدلالات: عن الموصل، عن النافذة كأمل وكفقدان في آنٍ معًا.
تبدو اللوحة للوهلة الأولى كأنها بقايا أثرية لجدار انزاح عنه الزمن، لكنها ليست بقايا حجر فحسب، بل بقايا معنى، بقايا لغة. عمل تشكيلي نُفذ خلال عام 1999، عام الحصار الاقتصادي، ليغدو شاهداً على زمن هش، تشظى فيه الجدار والإنسان واللغة.نافذتان مفتوحتان على جدار لا يُفضي إلى شيء. مشهد يبدو أنه ينتمي إلى أطلال بيت مهجور من مدينة الموصل القديمة، لكن النافذتين هنا ليستا للتأمل أو التهوية، بل للغربة والانغلاق. لم يرسم الفنان المشهد من خلف النافذة، بل ركز على النافذة ذاتها كرمز معمار نفسي.
يُقارب العمل كوثيقة سردية لجدارٍ يشهد لا على البقاء، بل على الفقد. يوظف الفنان تقنية الرماد والتراب والطلاء الخشن بتقشف واضح، ليمنح الجدار خشونته الحقيقية. كل مادة في اللوحة تقودنا إلى إحساس بالعطب: ألوان ترابية، لا تباين فيها، لا حدة، ولا وهم. السطح كما الذاكرة، مشروخ، مكتوم، لا يُصرح، بل يُلمح. النافذتان مسدودتان بصرياً. لا أفق خلفهما، ولا امتداد، وكأنهما مجرد فجوتين أُغلقتا بالمحو.
انقراض الابجديات
في قاعدة اللوحة كتابات صغيرة وأشكال أشبه بالرموز أو العلامات. لا يمكن قراءتها وفق لغة معروفة، بل تبدو كأنها أثر كتابة سابقة على اللغة. إنها تشبه الكتابة بعد الكارثة، حين تنقرض الأبجديات وتبقى الرموز. هنا تُستدعى أفكار أرنست كاسيرر في أن الإنسان لا يعبّر بالمعنى المجرد، بل بالرمز، والرموز التي نراها في هذه اللوحة ليست تعبيراً، بل استغاثة شكلية لما تبقّى من ذات فنان يعيش داخل جدار.
أما من منظور هرمنيوطيقي غادامري، فإن هذا الجدار – بما يحويه من نافذتين مغلقتين وكتابات رمزية – يتحول إلى نص بصري ينبغي أن يُقرأ تأويلياً، لا إخبارياً. ليس في اللوحة معنى جاهز، بل توتر بين المعنى والغياب. العمل كله يفتح المجال لما يسميه غادامر بـ «اندماج الأفق»، حيث أفق الماضي المرسوم وأفق الحاضر القارئ يتداخلان في عملية تأويل مستمرة، لا نهائية.يكشف أسلوب الفنان لوثر إيشو عن بُعد نفسي ومادي شديد الارتباط بزمن إنجازها، عام 1999، في ظل الحصار الاقتصادي. لا تُقارب اللوحة ككولاج بصري فحسب، بل كحالة روحية رُسمت بمواد شحيحة وداخل زمن شحيح. سطح اللوحة متآكل، يشي بالخراب، وتُعامل المادة الرسامية بخشونةٍ مقصودة، كما لو كان الفنان يُنقّب داخل الجدار بحثًا عن أثر. الألوان ترابية خافتة: رماد، طين، أثر رملي، بلا حياة تُذكر، مما يعبّر عن سكون داخلي أشبه بالتأمل الحزين.
منظور عميق
النافذتان تُطلان على لاشيء. لا منظور، لا عمق، لا ضوء. وهنا تبدو النافذة كرمز للانغلاق لا للانفتاح، وكأن الزمن نفسه قد توقف، أو كأن الحياة قد انسحبت من اللوحة كما انسحبت من المدن القديمة في لحظة حصار. وجود الرقم (99) داخل التكوين ليس تفصيلًا محايدًا؛ إنه توقيعٌ على سنة الانطفاء. وكأن الفنان أراد تثبيت العام داخل الجدار قبل أن يُمحى كل شيء. يلتقي هذا مع تصور كاسيرر للرمز، حيث يتحول الرقم والتاريخ إلى حاملٍ لحمولة شعورية كبرى.
في أسفل اللوحة، نجد إشارات، رموزًا من عالم آخر. إنها للتوثيق، كما لو أن اللغة نفسها لم تعد كافية، فاستعاض عنها الفنان بأبجدية بصرية غامضة. وفق غادامر، يصبح هذا الجدار ‹نصًا› يُقرأ ببطء، عبر الذاكرة والانفعال والتأويل. هكذا تتحوّل اللوحة إلى مرآة مزدوجة: تعكس المدينة في زمن الحصار، وتعكس ذات الفنان وهي تنحت أثرها داخل الجدار. إنها لوحة تُصغي أكثر مما تتكلم، وتفتح نافذتها نحو الداخل، لا الخارج.
عند المقارنة مع لوحات «النوافذ» في الفن العالمي، مثل أعمال ماتيس المشرقة أو نوافذ دالي السريالية، نكتشف أن نافذتي لوثر إيشو تخرجان عن الدلالة البسيطة للمشهدية والانفتاح. هما موصدتان بصمت الحرب، بفقر الزمن، بهشاشة التاريخ. تُقدمان شهادة.
ليست «نافذتان من المدينة القديمة» مجرد لوحة نافذتين، بل وثيقة بصرية عن خراب مدينة، وذهن، وزمن. نافذتان تحوّلتا إلى علامة، لا تُفضيان إلى الخارج، بل إلى الجدار ذاته، كأن كل ما تبقى من الوجود هو حائطٌ يُقاوم النسيان عبر الرسم. لوحةٌ تشهد كيف يمكن للفن، حتى في أكثر لحظاته تقشفاً ماديًا، أن يُنتج رمزاً عالي الكثافة، وأن يحوّل غبار الطلاء إلى ذاكرة لا تُمحى.