الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العمادية.. ميدان مضلل برؤية زرقاء


العمادية.. ميدان مضلل برؤية زرقاء

اسماعيل ابراهيم عبد

 

الرواية كليزار أنور وقع خاص على مستوى انجاز الرواية العراقية فهي أول رواية عراقية تحول المدينة الى أُسطورة واقعية , كما انها من أندر الروايات العراقية التي تجعل الطبيعة بطلة القول الروائي , بما تصنعه من عناصر متضافرة الأداء بيئية   وسلوكاً , ولعلها كذلك من الروايات التي تميزت بعمق النظر للتاريخ الاجتماعي للمدن , فهي لم تؤصل المدن بالنَسب العشائري وفترات حكم السلاطين , انما جعلت الرواية ملحمة انسانية للعمل والفن , والتعليم , والتآخي والرغبة الشاملة برفض العنف ونشدان السلام . وأول قيمة تواجه متلقي الرواية أراها في التعجب القائل : (أي وله هذا بالعمادية يا كليزار!). ونحن اذ نتابع الرواية سنتعرف على المحتوى الذي سرّبته لنا الرواية , وهو المحتوى الاجتماعي للتاريخ المديني عبر السقائف الزُرق للعمادية , وهذا يوجب علينا تصنيفها على انها رواية انثروبولوجية  . كذلك الرواية تمتاز بأنها تحيي وتجدد العمل بالرواية التاريخية , ذات الجغرافية لـ (المدينة ـ الريف) . ومن الممكن القول بأن قِدم المدينة يجلونا الى حقيقة مصادر المروية , التي نراها تقع عند حدود (الجغرافيا والتاريخ والمجتمع والسياسة والتراث الشعبي والفلكلور). وثمة شيء مكمل نزجه هنا هو                (ان الرواية تمتد بعيداً عن العنوان نحو الإيحاء العميق في كون (السقائف) تحيل ـ رمزياً ـ الى سهولة الرحيل أو الترحيل , و(الزرق) تحيل الى نقاء النفوس وسعة انفتاحها على الطيبة والسلام . هذا ما يوحي به عنوان الرواية ان لم تكن البيوت هي فعلاً مسقفة بالقش والقرميد الأزرق! .

لندخل عوالم أشياء الرواية , المادية والمجازية والمعنوية , بمهمة التلقي الآتية:

أولاً : زاويا نظر أولية

ان المتابع لمثل هذه الرواية له ان يحدد زوايا النظر , التي جعلت السرد يتشعب ليستحضر أُناس وحضارة ومجتمع , ساحباً إياهم الى العام 2022 . ولأجل ان نوضح ذلك نثبت الآتي :

ـ ان الرواية تبدأ من لحظة الحاضر , ثم تغادر نحو الماضي , القريب (1947ـ 1948) ثم الى الماضي البعيد , (تاريخ القرون الوسطى) , ثم ماضي الأُصول الأثنية (الأصول). ـ تمر الرواية على زمن طويل ومكان صغير , وقد حقق ذلك غايتين الأولى فنية هي تسويغ طول المروية , والثاني معلوماتية تتعلق بتتويج المدينة ذاكرة جمعية , من وجهة نظر عالمية .

ـ المروية حملت ذات المعلومات من الجانب التاريخي , لكن بأربعة مستويات من الروي, هي مدونات الباحثة الحفيدة ـ وربما المترجمة ـ سولاف , ومدونة الجد أحمد آدم ابراهيم , ومدونة صديق الجد عزرا يعقوب مانوح اليهودي , ومدونة صديق الجد الثاني متى شمعون جرجيس المسيحي.

ـ قُسمت الرواية الى ثلاثة أجزاء , الجزء الأول أخذ طريقة الفصول , وفواصل (النجوم ***) مثلاً , لمعالجة التوقفات السردية والانتقالات , ثم استثمار الأرقام كخلاصة لتغير أجواء السرد . هذا الترتيب يخص مدونة أحمد آدم إبراهيم (الكردي المسلم) .              اما الفصل الثاني الخاص بـ (عزرا) فقد استثمر طريقة الأسماء الاعلام كعناوين لتبرير انتقالات السرد . بينما الفصل الثالث الذي يخص (متي) قد وضع عنواناً واحداً في البداية هو الجزء الثالث وعنواناً أخيراً هو (النهاية). وتسلسلت حكاياته رقمياً.

ـ ترتيب الفصول والأجزاء والأرقام يوحي بالمنهجية الأكاديمية في رسائل الماجستير وأطروحات الدكتوراه , لذا يمكن ان نحيل شكل الرواية العام الى ما كان يسمى                    بـ (الروايات الاكاديمية) , بفارق اساسي هو ان روحية السرد المضاف من قبل الروائية غَيّر بنية الرواية وأهدافها , فصارت رواية فنية انثربولوجية تاريخية

ـ سولاف حكمت (الراوية) المترجمة قد وضعت روايتها بشكل رؤية تطبيقية بصرية فوتوغرافية للأماكن والناس , الذين صنعوا مدونة الجد أحمد آدم إبراهيم (المسلم) , الذي استثمر التاريخ العام الشامل الموسع لبيئة العمادية كمادة محتوى , بينما استثمر (عزرا) تاريخ عائلته اليهودية فقط , اما المسيحي (متي) فقد كتب مدونته بطريقة سردية خالصة.

ـ يتبين في الرواية ان عائلة (أحمد آدم ابراهيم) امتهنوا تجارة القماش والزراعة والتعليم. بينما عائلة (عزرا) قد امتهنوا تجارة الأراضي والعقارات والزراعة . في حين اتجهت عائلة (متي) لامتهان الصناعة والعسكرية التي تركوها ثم الزراعة أيضاً .

ـ يتوحد تراث المسلمين واليهود والمسيحيين عبر تشابه الفلكلور والطقوس والمهن الاقتصادية.

ـ تُظهر الرواية ان العمادية ملتقى للثقافات والديانات , ولرغبات الناس بالسلام , بسبب جمالها وموقعها بين دول مختلفة الثقافات , وخيراتها الكثيرة .

ـ جيء بديفيد وزوجة حكمت من امريكيا للتعبير العصري عن العلاقات الدولية الجديدة في العمادية الكونية!.

* تلك العوامل أدت دورين , الأول كثرة حروب الغزاة , وزيادة تماسك السكان في الدفاع عن وجودهم , والثاني الهجرة المتزايدة من المدينة بسبب الحروب والى المدينة بسبب جمال الطبيعة والجبال المانعة للشرور.

ثانياً : نظائر أسرار السرد 

هي قيم للتتالي السردي الذي يُصاغ منه التغير الزمني للمصدر بتزيين بهرجة الأُسلوب والخُلُق الثقافية , ليكونوا وقعاً تاريخياً . لنتابع .

أ ـ النظير المبهج المبهرج

هو تركيب للتوالي السردي الذي يعتمد الخطية الحدثية , تم اعتماده طوال التدوين للفصل الأول من الرواية , وهو قد انحنى بالرواية لتكون وثيقة انسانية لمدينة ومكان العمادية التي قد تعني العراق كله , او روحية الأماكن كلها او الآهلية العالمية للأماكن باجمعها

هل ثمة تماثل قولي لإنشاء القول الفائت؟ 

لنتبصر بالآتي :

[لم يسافر والدي الى العراق سوى مرة واحدة عند وفاة والده عام 1995 بعد ان أصبحت كوردستان العراق منطقة آمنة وبقي لأكثر من شهر .. أتذكر عندما عاد جلب لنا أشياء كثيرة من مدينته (العمادية) .. جوزاً ولوزاً وتيناً وتوتاً مجففاً ودبس الرمان .. فرحتْ أُمي بهذه الهدايا , بالإضافة الى محفظة أخرج منها دفتراً كبيراً أشبه بالسجل غلافه أزرق غامق (حبري اللون) بدأ يأخذ كل اهتمامه .. لم يكن يقرأ فقط , بل كان يغوص فيه ـ بصراحة ـ أثار فضولي]( ).

نلاحظ على المقطع السابق انه /

ـ يقر السرد بظرف السفر بمأساة وفاة والد حكمت , تنقله لنا ابنته سولاف , وفي الوقت ذاته هناك بيئة فطرية جميلة نقيه هي العمادية التي تثير البهجة برغم مأساة الوفاة , يومض بهذه الدلالة جلب الأشياء التي ترتبط بطفولة الطبيعة للناس والمدينة والبطلة.                       ـ ثمة فرح صريح يتمثل بـ (.. فرحت أُمي بهذه الهدايا) .

ـ وثمة وعد بروي قادم بعبارة (... بالإضافة الى محفظة أخرج منها دفتراً كبيراً أشبه بالسجل غلافه ازرق غامق (حبري اللون) بدأ يأخذ كل اهتمامه). ولعل لون الدفتر يوحي بانسجام السرد بين العنوان والمتون! كمكمل لوعد الروي .

ـ وثمة غرابة مشوقة مرسومة بفنية شبه فطرية في (ـ أبي ـ لم يكن يقرأ فقط , بل كان يغوص فيه).

ـ كذلك تتهيأ الراوية لوظيفتها القادمة في مروية (العمادية) عبر عبارة (بصراحة ـ أثار فضولي).

ـ هذا التوالي للأفعال نراه بهاء لمهرجانية اسلوبية تزين توالي مسرودات قادمة .                    ـ التوالي في السرد متغير الزمن والمكان , يجيء عبر استقدام التذكر , وهذا التذكر اسلوب يتضمن ملامح البهجة البلاغية , والجغرافية المؤنسنة , ورهافة وقع الذاكرة . * بتلك العوامل تميل الكاتبة الى تصعيد وقع (الروي) نحو تمثل ثقافي مباشر قصد ربط القيم الأخلاقية بالفضيلة الفنية , يُزاد الحدث متعة بالتفاصيل المتكاثرة , ورسم السلوك الموافق للوقع المكاني والتاريخي للإنسان ذي البيوتات ذات السقوف الزرق بمكان واقعي هو العمادية . ان ربطنا ـ إجرائياً ـ بين أجزاء الرواية كلها .

* في النتيجة يمكننا ان نعدَّ (العمادية) المنظر , والرواية النظير , وحركة الأفعال هي التوالي السردي لأسرار الفعل الإنساني .

ب ـ نظير الشيئية الثنائية

هي النظير الثاني لتوالد مناول الروي .. ولو ان ليس من حق أحد ان يفرض رؤاه على كاتب ـ كاتبة الرواية , لكن حدود الأشياء ليس فيها حرية كبيرة , على الأخص في تعيين المكان المادي الحقيقي , لذا تصرفت الروائية بطريقة ما أُسميه (الشيئية الثنائية) , التي أعني بها تسخير الموجودات لخدمة مستخدميها باحترام واحتراف كبيرين . ونعتقد ان ذلك يُفْرِحُ الطبيعةَ والبشرَ مثل نعمة يشعر الجميع بأنها غالية جداَ , وهي تحت مناول الجميع! .                

تروي البنت عن أبيها ,عن أُمها , قائلة :

[ساد الصمتُ فترة قصيرة مشحونة بالعذاب لكلينا , ثم واصل :

ـ في لحظاتها الأخيرة أوصتني بكِ... وأمالتْ رأسها الى الخلف , وأغمضت عينيها لآخر مرة استعداداً للنوم الأبدي .

ولا أدري لِمَ شعرتُ بأن هذا الحديث أزالّ كلّ ما بيننا من أسرار .. ] ـ السقائف الزرق , ص23.

لنركز على منظومة الأسماء الأساسية من جانب بناء الجمل , سنلاحظ :

1 ـ ان (الصمت , فترة , العذاب , لحظاتها الأخيرة , النوم الأبدي , الحديث , الأسرار) هي الأسماء الأكثر أثراً في الفعل الروائي.

2 ـ الأسماء كتلة حزن مشحونة بجمل المقطع , أدت وظيفتي الحزن والفرح , الحزن على الفراق والفرح بالوفاء : بين الأُم والابنة , وبين الأب والابنة , وبين الأُسرة معاً , على الرغم من ان الحال يستجلب الأسى كثيراً , كون الفتاة وأباها منكسرين بفجيعة الفقد. 3 ـ لو توسعنا بالتنصيص سنواجه مئات الأمثلة التي تصب في فنية الشيئية الثنائية باستعمال الأسماء . لكن الطريف بالأمر هو ما تصرح به الراوية في :

(ولا أدري لِمَ شعرتُ بأن هذا الحديث أزال كلَ ما بيننا من أسرار..).

فكيف ولماذا تزول الأسرار , بل ما طبيعة هذه الأسرار أصلاً؟ 

انني أرى الاسمين (الحديث والأسرار) لهما وقع نبوئي يُسهم في تغطية وظيفتين هما , وظيفة ادراك السر , الذي هو ان الموت معنا جميعاً ولا داعي للخوف منه , فهو صديق لدود للجميع , والثاني يبدو ان الابنة لم تعرف سبب وفاة أمها بعد , وفي هذا الحديث تشعبا لم تُبح بها الراوية , كونها تنتظر لحظة تنوير أجدى لتقول ذلك!.

4 ـ لكل هذا منوال مقابل يرسو بنا في خلق ثقافية اجتماعية , تتوالى علينا بفضيلة معرفة كوننا موجودين بفضاء العمادية (الأُسطوري الواقعي).   

ج ـ نظير نورانية الدواخل

ان الرواية من البداية الى النهاية لم تتطرق الى أي خرق أخلاقي , انما هي تمجد النور الداخلي لأبطالها , اللذين صنعوا ملحمة انسانية تاريخية بنور المحبة والحكمة والتضامن والتآخي والضوء المنبعث من النفوس ذات الطوية الحسنة. تؤكد على المثالية في الاخلاق والسلوك والثراء المادي والروحي ..

لنتدارك الفرض هذا عبر ما تقوله سولاف عن عوائل جدها , اذ قال عمها جودت :

[ـ انت لا تعلمين يا ابنتي ما كان يحدث في بلدتنا هذه..

عندما قال ـ ابنتي ـ أردتُ ان اُقاطعه وان احضنه...

أعود مساء الى غرفتي .. أخرج حاسبتي من حقيبتها وأفتح خط النت , وأكتب لديفيد .. احدثه عن كل مشاويري .. عن هذا المتحف المجاني الذي لا يحده حد ولا يغلق بمفتاح .. واحدثه عن اعمامي وعماتي , وعن اولادهم , وعن الجمال الطبيعي المكثف هنا ...

وكتبت له :

ان القبلة هنا دليل اهتمام وحب , وحتى احترام .. كلما عدت مساء .. استقبل بالقبلات ...

هنا , القبل .. مثل ختم (الأسطنبة) وتصدر صوتا كأنه صوت جرس] ـ السقائف الزرق , ص73 , ص74 .

ان انوار الداخل الإنساني (البهي) تشع على الزائرة (سولاف) بأشعة كونية , من بينها :

ـ تصرف العم كأنه أب مما جعل نوره الداخلي يشمل ابنة أخيه بحنان عميق حدا بها للقول (عندما قال ـ ابنتي ـ أردتُ ان اُقاطعه وان أحضنه...) .

ـ نور الجمال غطى بشعاعه الفتاة الزائرة بالامتنان , لذا فستقول :

(وأكتب لديفيد .. احدثه عن كل مشاويري .. عن هذا المتحف المجاني الذي لا يحده حد ولا يغلق بمفتاح .. واحدثه عن اعمامي وعماتي , وعن أولادهم , وعن الجمال الطبيعي المكثف هنا ...).

ـ نور القبلات يتضمن طيبة القلوب التي منحها ربها نقاء السريرة وجمال الجوهر والمظهر , فهي تُختم المحب بختم المشاعر الصادقة الأبدية , مثلما في العبارة                       (هنا , القبل .. مثل ختم (الأسطنبة) وتصدر صوتا كأنه صوت جرس).

ـ وثمة نور أولي يخص المعرفة والصبر علمها إياه العم جودت بقوله (انت لا تعلمين           يا ابنتي ما كان يحدث في بلدتنا هذه..).

* عبر ما مرَّ في المحور هذا يتسنى لنا ان نقول : ان النظائر الثلاثة صاغت التغير الزمني لمصدري البهرجة الأُسلوبية والخُلُق الثقافية , ليكوّنوا وقعاً تاريخياً يؤمن الأمان والجمال معاً , يتوالى بعضهما مع بعض عبر نور الحكمة والطيبة والجمال المكثف للناس والأرض .

ثالثاً : واقعية منقاة 

التاريخ الذي اختارته الكاتبة كليزار أنور بواقعية شديدة النقاء , خلصته من المبالغة والزيف والسفه الوجداني في التغني بالمكان , إذ جعلت المكان أُغنية للطبيعة والبيئة الحقيقية الجاذبة للسعادة والرقي الحقيقي للناس والموجودات والمعتقدات , عبر معلومات موثقة بمدونة الجد والصور التي تم التقاطها عمليا من قبلها بمساعدة اقاربها.                      لننظر الآتي : يقول الجد أحمد آدم إبراهيم في دفتره الخالد :

[ولأني مؤمن بأن التاريخ لا يضيع بالكلمات.. وجدتني آخذ القلم وأخرج ذاك الدفتر الذي اشتريتُهُ مُنذُ سنوات ـ وقفتُ أمام مكتبة لبيع القرطاسية .. أتأمله , فقد أعجبني كثيراً .. دفتر أشبه بالسجل , مغَلَف بجلد أزرق سميك , نَقدتُ ثمنه ... دون فِصال في غلاء سعره ـ لم يُفَك عُذريَتُهُ أحدٌ من قبلي .. وأجلسُ في شُرفة غرفتي في بيتنا في محلة                         (سًردً بكي).. شرفة على حافة العمادية وقبالتي (مصيف سولاف) وتحتَ الشرفةِ وادٍ  سحيق (ريبار) أو بالأحرى .. غوطة من الأشجار الوارفة يتخللها نهر (قوبا) المنحدر من جبل (مَتين)  في سولاف .. والله وحده يعلم أين ينتهي!

وجدتني أكتبُ عن مدينتي ... مقرراً الكتابة عنها بصدق ومن وحي قلبي] ـ السقائف الزرق , ص117 , ص118.

الروائية انتقت أحداث التاريخ وتغيرات الزمان والمكان , بصدق القلب ووجد الالتحام ببيئة الأُصول , ورأت ما لم يره غيرها , وكان بلسان الجد المدون بدفتره الأولي (القدري) , تعطينا نموذجاً من تجربة الواقعية , إذ هي موجودات ملموسة ومرئية ليس لها ان تتصف بأكثر من وجودها المتكافل الجمال . يتجه سردها بمسبار التجربة الى :

1 ـ ان البيئة البكر جمال بكر , ينتمي لها بشر بِكر يجعل التاريح حياة لا كلمات , لذا لن يضيع التدوين الذي يحتويه دفتر التدوين الصادق .

2 ـ الطبيعة تكتب عن نفسها عبر (سولاف وريبار , ومحلة سرد بكى , وقوبا ومتين) , فهي توقع على المكان بالحفاظ عليه مهما كثر الناس من جورهم عليها .

3 ـ الانتقاء والنقاء للبشر والشجر والحجر يضع الذائقة الكتابية في امتحان التدوين عن المدينة والناس والطبيعة بما لا يمكن تجاوزه او محوه .

4 ـ نِعم الله لا ينقصها الجمال , ولا العيش الموفور , لذا لا تدوين قبل الإيمان بأن هذه النِعَم لا يعلم نهايتها غير الرب الرحيم .

5 ـ ان بهاء العمادية لن تحظ بشيء أهم من  قول المدون (الرمز) أحمد آدم إبراهيم : (وجدتني أكتبُ عن مدينتي ... مقرراً الكتابة عنها بصدق ومن وحي قلبي).

* إذاً الانتقاء والنقاء وترشيح الحضارة الحقة هي أفعال الروي التي وضعت الناس والأشياء بمصاف النفائس الثمينة الخالدة.               

رابعاً : المعلوماتية

تتصدر المعلومات العملية والمعارف في الرواية ؛ التواريخ والمعلومات الأثرية والمعلومات عن اللقى الحضارية الموثقة بحدود السنين والفاعلين لها , ومعلومات التوصيف المكاني لجغرافيا العمادية. هنا يتوجب القول بأن المعلومات الكثيرة لا تنتظم بحقل واحد لانثربولوجيا الروائية , ويمكنني أن أضع تصنيفا مبسطاً للمعلوماتية في الرواية , وأهمها :

1 ـ المعلومات الأثرية والحضارية , وهي تتناصف ـ تقريباً ـ رتبة الكمية والمساحة العرضية للرواية مع معلومات التدوين التاريخي .

2 ـ المعلومات التاريخية , وهي تنحو الى التحديد بالرقم للسنة واليوم وربما الساعة , للنشاط البشري لإقليم العمادية وما يجاورها. ولها ذات المرتبة والأهمية التي للمعلومات الأثرية .

3 ـ المعلومات الجغرافية , وهي تتميز بتحديدها للظواهر التضاريسية كالهضبة والوادي المحتضنان للعمادية , والأحوال الجوية , خاصة الرياح والثلج والمطر والحرارة وأشعة الشمس صباحا وقبيل الغروب.

4 ـ المعلومات الاجتماعية , وهي تسلط الضوء العلمي الساطع على سكان المدينة ومهنهم وعاداتهم وطقوس حياتهم , خاصة عائلة أحمد آدم إبراهيم , ممثلا لمسلمي المدينة المسالمين مع أهلهم من المسلمين الآخرين واليهود والمسيحيين , ومتساندين في الاخاء والانتماء للمدينة , متساوون في التضحيات في حال تعرض إقليم العمادية لاعتداء خارجي .

5 ـ العلوم اللاهوتية للمسيح واليهود , وعلوم القران للمسلمين .

6 ـ المعارف الثقافية , وهي بنية نسقية دينية خليطة من مبادئ وطقوس الديانات الثلاثة , الاسلام والمسيحية واليهودية , ولا أثر لديانات اخرى . وهذه المعارف غالباً ما يتصل بها فن الغناء والغزل والحياكة والنقش على الملابس .

7 ـ المعارف الاقتصادية , وجلها تتعلق بالسوق وطرقه ومنافذ التمويل وتجارة التصدير وأحواله وعمرانه.

8 ـ المعارف الاحصائية , وهي محصورة بالمدارس القليلة جداً من بداية نشأة المدينة حتى العام 1948.

9 ـ المعارف العسكرية , وهي تخص بعض المتطوعين القدامى من ضباط ومراتب , في الجيش البريطاني..

10 ـ المعارف الميثولوجية , وهي تخص ثلاثة قوى , الوقائع المتحولة في الذاكرة الشعبية من واقعها المادي الى واقعها المتضخم المتعاظم الجماعي . ثم معارف العرفان للبسطاء وبعض الحكائين , ثم ميثولوجيا الطب الشعبي .

11 ـ المعلومات الأرشيفية , وهي لا تتعدى ما ورد في مدونة الجد وصور سولاف مع أبيها وأٌمها وصورها في العمادية مع الآثار والاقارب.

* المعارف كلها تم استثمارها بطريقتين ـ كإجراء تنفيذي , هما (المتن كمعلومات متصرف بها , والهامش كمعلومات دقيقة شبه اكيدة او شبه اكيدة) , خاصة في ما يتعلق بالجغرافية والأثر التاريخي السياسي).

* للمعارف السردية نوعان السرد بالكتابة للجد والسرد بالمعاينة لسولاف , ولها اسلوبان الحكي الحدثي للناس والتاريخ , ثم ميتا السرد حيثما تقتضي الضرورة له.

* الروي تبع طريقة اداء أربعة شخوص أساسيين هم سولاف , جدها المسلم الكردي , عزرا اليهودي , متي المسيحي .

* عتمت الروائية على المعارف الاثنوغرافية لسبب ثقافي ـ بحسب ما نفهم , فلم تمسه إلّا قليلاً .

* أوجدت الروائية مساحة ضيقة جداً للمرأة المتحررة من تبعية النمط , أوقفته على الزائرة سولاف , وبعض قريباتها , وفتاتين حبيبتين لمتي وعزرا , وأم سولاف. والسبب على ما نعتقد , هو ان مدونة الجد تسجل الأحداث الى سنة 1948, وقتها كانت المرأة مقيدة بالسلوك النمطي الرصين الذي لا تشكو من حيفة نساء العمادية , فضلاً عن ان الحشمة هي علامة للحرية والجمال , خاصة ان جميع نساء المدينة متزوجات من الأقرباء

خامساً : اشكاليات

في هذا المتجه نحاول ان نثير بعض اشكالات المروية على نحو يقترب من الأسئلة الجدلية . لنمضي إليها:

ـ ما الذي يصنع التاريخ , المكان أم الزمان , أم الانسان , أم العلائق الثلاثية بينهم؟         ـ لماذا توظف الكاتبة أكثر مساحات سردها للوصف والتوثيق لكل من الأشياء الساكنة , والميول والرغبات السليمة , خاصة ص200 , ص201؟

ـ هل حقاً ان اسلوب الرواية يقتصر على الحكاية وصنع العمران , وتدوين تاريخ الآثار؟

ـ أ يجوز وصف الرواية بأنها رواية ثقافية , من سلوك أشخاصها الى طبيعة التدوين , وبيئية الطقوس , وعلاقات الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؟

ـ هل نظام الأكل والطبخ ونوع الأكلات , والتطريز حاصة بالمرأة دون غيرها؟                 وهل هي مادة الفلكلور الرئيسة لشعب العمادية؟

ـ هل السقائف الزرق ترمز الى صفاء النفوس العامرة برحمة السماء فقط؟

ـ هل الهوامش حاشيات مكملة او أصيلة؟

ـ لماذا ظلت الروائية مصرة على المثالية الاخلاقية للعمادية , دون اي مظاهر او حوادث للصراع؟

ـ لماذا لم تفصل الراوية بشؤون حياة أجدادها لأمها؟

ـ لمَ لمْ تتوقف الروائية ـ ولو قليلاً ـ عند العلوم الدقيقة , خاصة وان مروية المسيحي متي مليئة بمقولات الصناعة . ومثل ذلك الاهمال طال المعلومات الطبية والحسابية.                      ـ ما الحكمة من رواية التاريخ الواحد للمدينة الواحدة بأربع رؤى متقاربة؟

ـ ما مقدار الضرورة لشخصية ديفيد؟

هامش أخير

هل يمكن ان نُثَبِّتَ مقطعاً واحداً نتلذذ به بعيداً عن اشتراطات النقد وعصمة ذائقته.. لنجرب الآتي: يقول متي المسيحي :

[للغة الأرقام جمالية خاصة وأناقة بصرية وأُسلوب عددي يجعل كل أُموركَ تسير بموجب منطق معين لا يقبل الغلط .. أردتُ أن أجعل من مادة الحساب ايقونة للمتعة , بحيث يكون دَرسي ترفيهي عن طريق الأسئلة بصيغة الألغاز الرياضية أو الألعاب .. ونجحتُ في ذلك.. دائماً أقول للذي يخاف الرياضيات:

ـ اعتبرْها مهارة ذهنية, لا غير .. لعبة تريد الفوز بنتائجها!

جميل ان تعمل كل شيء بمتعة وتلذذ وحب .. ليست مادة الحساب , بل غدت ـ أيضاَ ـ الموسيقى جزءً مهماً من حياتي .. لا تمر مناسبة في المدرسة أو مناسبة عائلية , أو أي شكل من الاحتفال إلّا ويكون كماني على كتفي .. أصبح بمثابة صديقي ورفيقي الدائم في كل مشاويري .. أغمض عينيَّ .. وما ان تعانق أناملي على أوتاره الأربعة حتى ينطق بالسحر ويبوح لي بكل الأسرار .. أعترف بكل مشاعري .. أنثر الأنغام في القلوب لتبض بوجدها .. وانشرها بين الدروب لتحكي حكايا من مرّوا بها ..ومع الأيام فرض كماني نفسه ـ حتى ـ على قداس الأحد والأعياد .. يعزف الترانيم القدسية .. يمد جسوراً وهمية.. ليعبر الحضور بها سموات بعيدة .... أصبحت الموسيقى دوائي .... فكلما انتابني ألم .. حملتُ كماني ذاهباً الى (السولاف أو الريبار) أقف تحت شجرة او أجلس على صخرة.. وأعزف للطيور والسماء والأحراش , مشكلاً مع الطبيعة سمفونية الوجود!]( ).

* هكذا تكتب سقائف العمادية الزرقاء فهم الانسان للجمال المطلق والتاريخ الكوني لفطرة مدن الجمال للبشر والطبيعة والنفوس البهية وللأقلام المتفننة في الفهم والمعرفة والوعي الحضاري.. هذا ما نراه في رواية السقائف الزرق للكاتبة كليزار انور.


مشاهدات 73
الكاتب اسماعيل ابراهيم عبد
أضيف 2025/05/18 - 3:29 PM
آخر تحديث 2025/05/19 - 1:01 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 741 الشهر 24126 الكلي 11018130
الوقت الآن
الإثنين 2025/5/19 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير