الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
 التاريخ الشّفهيّ وسيلة لتصحيح التّواريخ                    


 التاريخ الشّفهيّ وسيلة لتصحيح التّواريخ                    

عـلاء لازم العيـسى

 

( 1 )

    لا يستطيع أحد من قرّاء البحوث التاريخيّة أن ينكر أن ( التاريخ ) علمٌ مختار وليس علماً ثابتاً ، وذلك لأنّ الواقعة التاريخيّة هي حدث من أحداث الحياة اليوميّة ، وقعت في زمن مضى ، وتمّ تخزينها في الكتب ، وعندما يأتي الباحث في التاريخ يختار منها ما يشاء ويهمل ما يشاء ، وفقاً لقدر ثقافته ، أو انتمائه الفكريّ والإيديولوجيّ ، أو المذهبيّ ، أو بما تمليه عليه دوافعه النفعية والسياسية ، ولهذا تتبدل وجهات النظر من مؤرّخ لآخر في تفسير أو تحليل الواقعة التاريخية الواحدة ، وتتلون بتلون نوع الدافع والهدف ، وتُخفى بعض الأحداث والأسماء والحوادث وتسلّط الأضواء الكاشفة على أحداث وأسماء ووقائع أخرى ، بل ربّما اختلفت وجهة النّظر أو التفسير والتّحليل عند الشّخص نفسه باختلاف الظروف والأنظمة وربّما باختلاف المنفعة . وقد عبّر الفيلسوف الفرنسي تودوروف عن ذلك أحسن تعبير حينما قال : (( إنّ التأريخ دائمًا  أكثر هشاشة واعتباطًا ممّا نظنّ ، لأنّ زاوية النظر التي نتّخذها تدفعنا إلى اختيار بعض الوقائع البارزة وإزاحة غيرها )).

( 2 )

    وصحيح أن معاينة وقائع التأريخ ، ليست ميسورة ولا محقّقة باعتبارها أحداث في الماضي ، كما إنّ استخدام التجربة ، ووسائل المختبر غير ممكنة في الدراسات التاريخية ، لكن يبقى المؤرخ كأيّ عالمٍ آخر ( يَسأل ويُسأل ) دون كلل من أجل سبر أغوار مشاكل الإنسان ، وايجاد الحلول لها من التأريخ . إذاً، فالعيب ليس في كتب التاريخ فقط ، وإنما في المشتغلين بها كتابةً وبحثاً أيضًا ، ومن هنا نستطيع أن نقسّم المشتغلين بالتأريخ إلى طائفتين : الطائفة الأولى : أكتفت بالنقل والتدوين عن السابقين فقط بلا تحقيق أو تعليق ، وهؤلاء ، بالرغم من الفائدة التوثيقيّة لأعمالهم ، إلا أنّهم يُعدّون مدوّنين للوقائع والأحداث ليس إلا ، وربّما أفسدوا من حيث يريدون الإصلاح ، ولهذا أشار إليهم أحد القدماء بقوله :  (( ومن كان دأبه ليس إلّا إعادة ما ذكره الماضون ، وجمع ما دوّنه السابقون ، فهو منحازٌ عن مراتب التحقيق معرّج عن ذلك الطريق ، بل هو كحاطبِ ليلٍ وغريقٍ في سيل )) . أمّا الطائفة الثانية : فهم الذين يتعاملون مع الواقعة التاريخية بشيء كثير من الوعي والتعليل لحوادث التاريخ ، ويغوصون في ذاكرة التاريخ وباطنه ، لتجنب مواطن الإخفاقات  ومعالجة التحديات وفق منطق تحدّده أنشطة عقليّة في الاستقراء والاستنباط والاستنتاج والاستدلال ، بعيدًا عن التأثيرات الجانبيّة أو سلطة العقل الجمعي ، وهؤلاء أندر من الكبريت الأحمر كما يُقال .

( 3 )

   وبما أنّ مصادر المعلومات ، والوثائق ، ليست في حدّ ذاتها تاريخًا ، وإنّما هي شهادة تشهدُ على جزء من اللحظة التاريخيّة ، وقد تكون هذه الشهادة صحيحة ، أو مُزيّفة ومحرّفة ، أو كُتبت تحت ضغط التعصّب لنزعات المؤلف الشخصيّة من دينيّة وقوميّة وسياسيّة ومذهبيّة ، أو تحت اغراء أموال ومناصب الحاكم والسلطان المتنفّذ حين الكتابة ، حيث يتمّ تضليل الرأي العام وتوجيهه بحسب متطلّبات الساسة عن طريق المثقّفين المغالطين ، كما سمّاهم المحلّل الاستراتيجيّ الفرنسيّ الدّكتور ( باسكال بونيفاس ) ، أو بواسطة الإذاعات والقنوات المرئيّة والمسموعة ودور النشر والمنتديات ، وربّما وقع التحريف نتيجة لنقل المؤلف المتأخّر واقعة تاريخيّة بالواسطة ممّن نقل عن المصدر الأصلي من المتقدّمين دون رجوع هذا المتأخّر إلى المصدر الأصلي ، إهمالًا ، أو ثقة بالناقل ، لمنزلته التاريخية أو الأكاديميّة أو السّياسيّة ، فيكون المؤلّف المتأخّر شريكًا في فعل التحريف من حيث لا يشعر ، ولهذا يجب على القارئ الباحث التحقّق من صحّة المعلومة من خلال الرجوع إلى مصدرها الأصلي وعدم النقل بالواسطة .  

( 4 )

   وبدءًا من خمسينيّات القرن العشرين ، وبسبب انفتاح بعض المؤرّخين الجدد على منجزات العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة ، سيّما على الإثنولوجيا والتحليل النفسي واللسانيات ، نشأ نوع جديد من مصادر التأريخ ، مكمّلًا للمصادر التاريخيّة المدوّنة يسمّى ( التاريخ الشّفوي ) اعتمد (( الملاحظة والحوار المفتوح وتلقّي خطاب الآخر مصدرًا أيضًا لدراسة الأرياف والقرى والفلّاحين والعمّال والأحياء المهمّشة في المدن والمعوّقين والأطفال والنساء والسود والمهاجرين ))، فكوّن مع التاريخ المكتوب علمًا جديدًا أطلق عليه مصطلح ( الإثنو ـــ تاريخ ) حيث يتكامل العلمان التاريخ والإثنولوجيا في التنقيب عن الأفكار المكبوتة والملغيّة ، والمواقف المسكوت عنها أو المحاربة ، بفتح الراء ، من قبل أنظمة الحكم المتسلّطة أو الدّول الاستعماريّة الاستيطانيّة ، أو الجماعات التي تؤمن بثقافة الحزب الواحد ، أو من قبل أصحاب الثراء والإقطاعيّات ، فتعمل على طمس تلك الأفكار والمواقف أو تهميشها والغائها ، وكم من أحداث جسام ومواقف زاخرة بالعطاء وقصص تحدّيات نضاليّة بطوليّة ، لم يقدّر لها أن تدوّن في مكتبة أو أرشيف ـــ لسبب أو لآخر ـــ لتصبح متوافرة للباحثين ، فكانت سببًا رئيسًا في ضياع كثيرٍ من الحقائق والحقوق.

( 5 )

   ووسط هذا الحماس الشديد للإثنو ـــ تاريخ ، والترحيب بِهِ ، يجب على الباحث في التاريخ ، لكي يكون منصفًا ، وحتى لا يقع بنفس الأخطاء التي وقع بها مؤرخو الأمس في عدم هضم الحقائق ،  أن  يَطرح على نفسه هذا السؤال المهمّ ، وهو : كيف أتعامل مع التاريخ الشّفاهيّ ؟ ، وبتعبير أدّقّ  كيف يمكنني أن أثق بشهادة الآخر المُهمّش والمَلغي والمسحوق ؟ ومتى يكون التاريخ الشّفاهيّ مكمّلًا آمنًا وأمينًا في نقل الحقائق لملأ الفراغات الّتي أوجدتها الأقلام المأجورة للحاكم المتسلّط أو الاستعمار الغاشم ؟ . 

 ( 6 )

   إنّ أنجح الطرق لتعامل المؤرّخ والباحث مع رواة التاريخ الشفهيّ هو العمل بقول بعض علماء التاريخ : (( الأصلُ في التاريخ الاتِّهامُ لا براءة الذّمّة )) ، فالإنسان ، كما قرّرعلماء علم النفس وأثبته الواقع ، عرضة للنسيان ، وقد تخونه الذّاكرة فيخلط بين حادثتين ، فيضيف وقائع حدثت أو وقعت لواحدٍ وينسبها إلى آخر ، وربّما اندفع الرّاوي بشيء من الغرور أو المفاخرة والمنافسة ، أو صنع الأمجاد الكاذبة وحُبّ الظّهور ، فيحيد عن الصّدق والحقّ وينطق بالباطل والأكاذيب . وكما أنّ علم ( الباليوغرافي ) يهتمّ بكلّ ما هو مكتوب أو منقوش أو مرسوم ، واختبار المواد المستعملة في هذه العمليّات وإخضاعها للتحليل والتركيب ، ومن ثمّ استنباط النتائج منها . ويُعنى كذلك بفكّ الخطوط القديمة ورموز الكتابات الأثريّة ، والنّقوش والمسكوكات ، وذلك بدراسة أشكال النقود وتطوّر هذه الأشكال عبر القرون ، وتحليل المَعدِن الّذي سُكّت منه ، للوصول إلى أصدق النتائج وأقربها للواقع . علينا ، كباحثين ومؤرّخين ، أن نتعامل بحذر وبأعلى درجات الشّك مع المرويّات الشفهيّة قبل القطع بصحّتها .

( 7 )

   أخيرًا ، فإنّ اعتماد التّاريخ الشّفهيّ مصدرًا مكمّلًا للكتابات التاريخيّة تُعدّ ضرورة معرفيّة وإنسانيّة وأخلاقيّة وحقوقيّة مهمّة ، لما تمّ عزله أو طمسه أو تهميشه أو تصفيته ماديًّا أو معنويًّا ، من الأفراد أو الجماعات ، في الحروب أو في حملات التّطهير ، أو في المنافي والسّجون ، أو تحت مظلّات الحكومات الديكتاتوريّة في كلّ مكانٍ في العالم ، أو في المصحّات والمشافي ، مع اشتراط الدقّة والأمانة في رحلة تحويل الذّاكرة إلى تاريخ ، وتحويل التاريخ إلى علمٍ مصحّح لانحرافات الذّاكرة ، لكي تملأ الفراغات وتُصحّح بعض التّواريخ فتصحّح تبعًا لذلك بعض المواقف .


مشاهدات 1358
الكاتب عـلاء لازم العيـسى
أضيف 2025/01/28 - 12:05 AM
آخر تحديث 2025/05/02 - 1:32 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 265 الشهر 1454 الكلي 10995458
الوقت الآن
الجمعة 2025/5/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير