حسن النواب
شحيحةٌ ومريبةٌ وخطيرةٌ هي الأمكنة التي كان الأدباء يلوذون فيها آخرة الليل، بعد فرارهم من الحرب. مهاجع مبتذلة في فنادق رخيصة، أو مقاصف في أزقة قديمة، ومنهم الذي اكترى حجرة بائسة في مناطق قديمة من العاصمة بغداد. كانوا بجمرات أرواحهم يضيئون قناديل سحرها حتى الفجر. في ليلة باردة دعاهُ أحدهم للسهر معهُ في غرفته الكائنة في حي البتاوين، كانت الحجرة شبه عارية إلاّ من بذلة ذلك الصديق والتي حرص على وضعها بكيس عريض من النايلون لدرء الغبار عنها؛ وقد علَّقها بمسمار صدئ على جدار مسلوخ الدهان. بينما تكدَّست الكتب في زاوية الغرفة. كرعا كأسيهما من الخمر المغشوش دفعة واحدة بمحاولة يائسة لطرد البرد الأزرق الذي كان يهيمن على فضاء الغرفة، فيما انبرى صديقه بكتابة عرض نقدي عن قصائد شفيق الكمالي، قال محذِّراً إياهُ:
- أنت تلعب بالنار؛ الحكومة ليست على وفاق مع هذا الشاعر.
أجاب بعد أنْ شفط كأسه من دون مازَّة:
- مسؤولة الصفحة تعشقُ شعره، وربما تغامر بنشره.
- وبعد النشر تذهب أنت إلى الحضيض.
أطلق الصديق ضحكة صاخبة وأهداهُ سيجارة استلَّها من حقيبته الدبلوماسية الصغيرة، لا يدري من أين جاء بسيجارة الروثمان تلك فهو لا يدخن؛ ولكن الذي يعرفهُ أنَّ صديقه لديه القدرة على إقامة صداقات خاطفة مع الأثرياء والتجار، مستعيناً بتلك البذلة المصلوبة على الجدار وبحقيبته الدبلوماسية، فهو لا يتخلَّى عنهما في تجواله ولطرد الشبهات عنهُ، طالما أنقذهُ مظهره الأنيق من مواقف صعبة ونجح من تجاوز السيطرات بقلب واجف وبؤس الجنوب يهيمن على ملامح وجههِ. في تلك الليلة أجهزا على قارورة العرق المغشوش بالكامل وقد انتهى صديقه من وضع لمسات أخيرة على مقاله النقدي عن شفيق الكمالي، ولما شعر أنَّ صاحبه يتلهف إلى سيجارة أخرى، اقترح عليه:
- بحوزتي علبة روثمان أهداني إيَّاها أحد الأثرياء، ستكون من نصيبك إذا كتبت قصيدة الآن.
لم يتردد لحظة من تنفيذ مقترحه، وكتب القصيدة بفترة وجيزة ودخَّن سيجارة ليغفو بعدها. بعد مضي أيام وجد القصيدة منشورة بجريدة العراق مهداة إلى ذلك الصديق، وحين التقاهُ في نادي الأدباء وقبل أنْ يفتح فمه، أطلق صاحب البذلة الأنيقة ضحكة صادحة قائلاً:
- لم اتلاعب بالقصيدة، هذه نسختها الأصلية بخط يديك، لكني أضفت الإهداء لها.
- مقابل علبة الروثمان.
- والسهرة التي أمضيتها معي.
أردف بإصرار:
- ومكافأة القصيدة لي، لأني حرَّضتك على كتابتها.
هذه مقالب الصعاليك فيما بينهم والتي أدمنوا عيها؛ لذا حرَّك رأسه إيجاباً فصديقهُ صاحب الحقيبة الدبلوماسية كان أكثر الأدباء الصعاليك نشاطاً ولهُ محاولات لا بأس بها بكتابة النقد الشعري. وقد كتب أكثر من مقال عن الشاعر عدنان الصائغ إذْ كان يعشق شعره حد الوله. هنا تذكرَّ الصديق لقاءه الأول بالصائغ في مدينته المقدَّسة، حيث حضر لرؤية تمارين المسرحية التي كتبها عن دعبل الخزاعي وكانت من إخراج سلام الخاقاني وبطولة الشاعر ابن المعتوق، الغريب أنَّ المؤلف من الكوفة والمخرج من النجف والفرقة المسرحية من كربلاء فسألهُ مشاكساً:
- لماذا دعبل الخزاعي بهذا الوقت؟
كان المناخ السياسي متوتراً نتيجة زيارة السادات إلى القدس المحتلة؛ تفحصَّهُ الصائغ بعينين مرتبكتين وغمغم بجواب مبهم لم يتمكن من فك رموزه السائل، ولما أيقن الصائغ من صفاء سريرة ذلك الصديق، همس بأذنه قبل مغادرة القاعة:
- لأنَّ دعبل شاعر شجاع.
لم يكن يومها الشاعر الصائغ معروفاً، بل في ذلك الوقت لم يكن قد نشر حتى قصيدة واحدة، لكنَّ اسمه سطع ولفت الأنظار خلال الحرب مع إيران. وفي سهرة جمعت ثلة من الأدباء والفنانين في حانة على شارع أبي نؤاس؛ وإذا بالمخرج ناجي عبد الأمير يقرأ على الجميع بحماس وإعجاب قصيدة للصائغ كانت منشورة في جريدة الثورة” قبل العصافير نركضُ فوق الندى والبطاح، نفلُّ ضفائر حلوتنا الشمس، ننثرها خصلةً، خصلةً للرياح.” هكذا تدفَّقت أشعار عدنان الصائغ وزاد من بريقها الناقد يوسف نمر ذياب عندما كتب عنها وأعقبهُ الناقد الراحل عبد الجبار داود البصري ثم صيحة الناقد عبد الرضا علي في ملتقى تموز الشعري:
- انتبهوا؛ إنَّهُ شاعر خطر وأنا أعني ما أقول.
فيما أجّّج العنفوان الشعري للصائغ الناقد مدني صالح عندما وضعهُ بمنزلة السياب والبياتي؛ وكان لابد أنْ تشتعل النار من كل حدب وصوب؛ حيث انبرى الشاعر الراحل سامي مهدي الذي كان رئيساً لتحرير جريدة الجمهورية لينشر مقالاً شديد القسوة بعنوان إنهم يقتلون القصائد؛ وقد أشار بأصابع الاتهام إلى الصائغ والشاعر الراحل رعد عبد القادر بالسطو على قصائده، إذ اتَّهم الأول بقصيدة الرسام فيما إدَّعى أنَّ قصيدة سطوح لرعد عبد القادر مأخوذة من قصيدته بيوت؛ نعم اشتعلت الصفحات الثقافية بنار الاتهامات كأنَّها تشاطر حريق جبهات الحرب، لكنَّ الصائغ لم يصمت، بل ردَّ بقصيدة أهداها إلى سامي مهدي ونشرتها جريدة الجمهورية بصدر رحب؛ كانت بعنوان الرسَّام ثانية، يقول الصائغ في مقطع منها: هذي اللوحات الملصوقة في القاعة، أيامي المنشورة في الطرقات وفي الريح، علَّق أحدهم ببرود: – هذي اللوحة تشبهُ لوحة سيزان. التفت الرجل المتأبط زند امرأة وكتاباً ضخماً: – بل تشبهُ لوحات جواد سليم، صرخ الرسَّام الكهل المتأنق في وجه الصحفي العابر منفعلاً: – بل هي تشبهُ لوحاتي. لم يكترث الرسَّام الشاب، أغلق باب المعرض، حين انفضَّ الجمهور، ومضى يتسكَّعُ ثانيةً، في الطرقات وحيداً، يبحثُ عن لوحات أخرى”.
بعد تلك القصيدة الذكيَّة خمدتْ نيران الاتهامات، لكن اشتعلت نيران الحسد والحقد والغيرة بأفئدة آخرين، فمن يطفئ أوراها؟