يتذكَّرُ صديق الغجري أول لقاء في حياتهِ مع الشاعر الراحل كمال سبتي، إذْ كانت هناك ندوة عن أدب الحرب القصصي في حديقة الأدباء في مطلع الثمانينات والمحاضر كان الدكتور محسن الموسوي مدير عام الشؤون الثقافية. كانت الحديقة ممتلئة بالجمهور؛ فيما وقف صديق الغجري في نهاية الصفوف منذهلاً من حشود الحاضرين؛ وحين لمح الشاعر كمال سبتي الذي كان يكتب زاوية أسبوعية في جريدة القادسية بعنوان كلمات في المهب، دنا منهُ وسألهُ:
- أنت الشاعر كمال سبتي؟
حرَّك رأسه ايجاباً ولكن بلا اهتمام، عاد صديق الغجري يسألهُ:
- لديك مقال كتبتهُ عن جندي في الجبهة وصلت منهُ قصة قصيرة عن الحرب؟
أثار اهتمامه السؤال هذه المرَّة فقال بحماس:
- كانت قصة ذلك الجندي درساً لي في الكتابة.
- ما اسم القصة؟
- الإجازات.
وبفطنته أردف:
- أنت كاتبها أليس كذلك؟
- نعم.
أهدى صديق الغجري ابتسامة إعجاب وسألهُ:
- هل تعرف مقهى حسن عجمي؟
- سمعتُ بها.
- دعنا نلتقي هناك وستصبح عظيماً.
كانت قصة الإجازات قصيرة جداً، إذْ ترصد ضابطاً يقف في ساحة المعسكر ليوزع الإجازات على الجنود بعد انتهاء المعركة، لكنه كلما ينادي على اسم جندي حتى يستلم اجازته يكتشف أنه غير موجود، فتظل الإجازات بيده ويقرر نثرها في الفضاء بإشارة إلى أنَّ أصحابها قتلوا في المعركة؛ تلك هي قصة الإجازات التي علَّقها الشهيد ضرغام هاشم على جدار غرفته في جريدة القادسية قبل اعتقاله فيما بعد بسبب مقال بريء كتبهُ ليعدم في الرضوانية بصمت. يسترجع صديق الغجري تلك المواقف الحرجة والأليمة والدمع يخدش وجهه بحرقة، ويتذكر الشاعر كمال سبتي الذي لم تكن حياته إلاَّ سيرة لطفل كبير، وقد دوَّنها على شكل قصائد في حروف المصحح والأقبية وآخر المدن المقدسة التي نشرها بعد فراره من البلاد. هنا يقف صديق الغجري أمام ثلاثة مواقف لكمال سبتي، الأول هو مهرجان المربد خلال الحرب مع إيران، عندما حضر الشاعر وكانت قصبة ساقه مكسورة، إذْ دخل فندق المنصور حيث إقامة الشعراء بساق يعلوها الجبس وعُكَّاز يستند عليه بتنقلاته، ربما اضطر لاستدانته من صعلوك عابر كان معوَّقاً بالحرب، كان العكُّاز يعلوهُ السخام وربما كان حزن أزقة الحيدر خانه، لبث الشاعر يذرع ممر الفندق بخطى بطيئة فيما كان صوته مليئاً بالشجن حين يرد على السلام؛ اللافت كان يردَّ على التحية بأحسن منها كما لو أنَّهُ بزغ فجأة من سوق عكاظ إلى بزارٍ لا يُباع ولا يُشترى به الشعر إلاَّ بالمديح والهتافات، ولذا كان غريباً عن الآخرين، يبحث عمَّن يشبههُ في الأسى، ربما وجد في سليم بركات من يواسيه والذي كان حاضراً في ذلك المربد وكانت شهرته قد سبقته بين أوساط الشعراء العراقيين. جلس كمال إلى أترابه من الشعراء وكان بينهم سليم بركات، فيما كان صديق الغجري واقفاً فوق رؤوسهم كفانوس مضيف مُطفأ. تحاوروا عن الشعر وهم يدركون أنهم يستعرضون أحوال نصوصهم في تلك الجلسة؛ إلاَّ كمال الذي أخبرهم بصراحةٍ وهو ينسحب عن مجلسهم:
- أيها الاصدقاء بلا مزايدة على نصوصكم؛ فهي تافهة أمام ما يحدث في الجبهات.
حاول سليم بركات أنْ يخفف من غضب شاعر “وردة البحر” كمال سبتي فقال لهُ:
- نحن نتحدَّث يا صديقي كمال بأفق أعلى.
استشاط كمال أكثر وردَّ عليه بثباتٍ:
- ومن أين يأتي الأفق لنا يا صديقي سليم؛ ونحن مازلنا نتحدث عن شعراء نجوم مصنوعين.
وانفرطت الجلسة.