حسن النواب
حانت ساعة انتخابات اتحاد الأدباء؛ فيما كانت جبهات الحرب ترسل كل يوم التوابيت تترى أمام عيون ثكلى؛ ولفرط ما ذرفت من دموع صارت مصابة بالرمد. ما من عين عراقي مضطهد كانت ترى مشهد البلاد من دون قذى؛ فقلد أصاب الرمد جُلَّ العيون التي أهدت الأبناء تباعاً وبرغم أنفها إلى مسلخ حرب طاحنة وهي تكظم الآهات بعيداً عن أنظار السلطة؛ فالآهات المعلنة من صدور العراقيين صارت تساق إلى الزنازين. أجل صارت الآهة والحسرة والدمعة وحتى البسمة المريبة تزجُّ إلى السجون؛ إكراماً لأبنائها الذين نحروا في شظايا الحرب؛ فحتى أم الشهيد صار لزاماً عليها إطلاق زغرودة النفاق بدلاً من نحيبها على ولدها القتيل أمام عيون المخبرين. وما أكثر الأمهات والآباء الذين التحقوا بأبنائهم القتلى بعد أسابيع من هول الكمد والحزن. كان الجندي القتيل خلال حرب الشمال في السبعينات حين يصل إلى بيت أهله على سيارة الواز مع ضابط قنوط يشعل في المدينة أحزاناً لا نهاية لها؛ بيد أنَّ قتيل حربنا مع إيران كان يدفن على عجلٍ مع قرار سري أنْ تصاحب الجنازة زغاريد مزيفة. صار الموت في البلاد يتخذ أشكالاً وأنواعاً غريبة وعجيبة حسب الظرف والزمان والمكان، وكان السفر إلى خارج البلاد ممنوعاً؛ في تلك الفترة الحرجة جرتْ انتخابات اتحاد الأدباء. يومها كان صديق الغجري جنديا سائق دبابة في قاطع الشيب؛ وكان في حينها بإجازة لمدة أسبوع حين صادفت تلك الانتخابات. ولما كان عضواً في هذا الاتحاد ومن محافظة كربلاء كانت ضيافته على نفقة الاتحاد في واحد من فنادق بغداد، لحين وضع ورقة اقتراعه صباح اليوم الثاني في صندوق الانتخابات. كان سريره تلك الليلة في فندق قريب من ساحة كهرمانة ربما اسمه زهرة بغداد، وقيل له أنَّ هذا الفندق كان يستقبل البعثات الدبلوماسية قبل بناء فندق المنصور والرشيد وغيرها من الفنادق الباذخة فتملكهُ الزهو كأنَّهُ جندي دبلوماسي في ذلك الفندق. كان يضطجع فوق فراشه عندما دخل إلى غرفته الشاعر كمال سبتي بصحبة الشاعر حميد كاظم الصائح، جلسا على حافة سرير مقابل إلى سريره. كان كمال منشرح الروح والنفس، لكنَّ حزنه لا يفارق ملامح وجهه مهما حاول الاجتهاد بذلك، وعرف منهما أنَّ لا سكن لهما هذه الليلة ما داما من سكنة بغداد، أي بمعنى أدق لا ضيافة لهما من اتحاد الأدباء. قال كمال بانفعالٍ وإصرارٍ:
- سأرشح نفسي لهذه المعركة.
وأخذ يفرك بأصابعه كما لو أنه تلميذ سيدخل في اصطفاف؛ هل كان يدلكها ليزيل بارود الحرب عنها أم كان يفركها كطفلٍ غرٍّ يريد عبور الامتحان؟ في الواقع كان صديق الغجري يحب كمال لسبب ربما هو لا يدركه بنفسه؛ إذْ كان يجد فيه صورة الطفولة بأعلى براءتها. أردف كمال قائلاً:
- سأذهب الى فندق “أغادير” لأخبر الأدباء الكرد بنيَّة الترشيح.
رافقهُ صديق الغجري إلى هناك ليشدَّ من أزرهِ، فيما لبث الصائح يأخذ قيلولة على السرير فقد نال منه الإجهاد. رحَّب الأدباء الكرد بحماسٍ عندما أخبرهم بعزمه على الترشيح، وبدأت الانتخابات، حانت لحظة من صديق الغجري ليبصر كمال واقفاً في منتصف القاعة واثقاً من فوزه. وهذا ما حدث إذ جاء فوزه صاعقاً أمام عيون أدباء السطلة وليكون هذا الفوز وسيلة للفرار من البلاد عندما اختير بوصفه عضو مجلس مركزي من ضمن وفد اتحاد الأدباء إلى ليبيا وهناك تملَّص عنهم وقرر عدم العودة إلى البلاد.