نازك الملائكة ومنافاة الرتابة
نادية هناوي
تفردت نازك الملائكة بريادتها الابداعية في الشعر وقدرتها المنهجية في النقد ونقد النقد فضلا عما كانت تتبعه في استهلالات دواوينها الشعرية، أو في تأليف كتبها من رؤى علمية تخصصت بالتنظير للشعر الحر. وما كان لنازك أن تحظى بهذه الفرادة وتلك الريادة لولا ما تحلت به من فكر نقدي خصب وذائقة نخبوية لا تنظر الى المضامين بمعزل عن الشكل، ولا تسلم لما هو متداول من معايير النقد، بل تهتم بروح النص من دون أن تتحرز من تعددية الرؤى. وهو ما جعلها أمثولة طليعية في النقدية العربية كمفكرة ومشرعة اتخذت من الحداثة مسعى حياتيا دامت عليه ولم تحد عنه. وكان من مسوغات الفرادة والريادة أنها لم تقبل السير على المنوال النقدي كما لم تتقولب في البحث والتحليل على التطبيق حسب؛ بل تعدت ذلك إلى النظر التجريدي، متخذة من الاختلاف ديدنا لها، فلم يكن يعنيها التطبيق بقدر ما يهمها التنظير سواء بالتمثيل للقضايا النقدية أو بالاستجلاء للظواهر الأدبية. ولقد منحها هذا الفكر النقدي الجرأة في الخروج على المنهجيات المعتادة، لتتجه نحو التجديد، مناوئة المتداول والتقليدي، متمتعة بالنظر الإشكالي، مراهنة على المتغيرات لا الثوابت، معارضة التنميط النقدي، غير معتبرة الوعي وحده في النقد.
ومنذ ديوانها الأول (شظايا ورماد) ومرورا بديوانها (قرارة الموجة) رفضت الملائكة التوافق، وسعت الى الجمع بين الثقافة الحديثة وتقاليد الشعر القديمة. ولقد قادها وعيها النقدي إلى استحداث أسس فكرية وفنية قرَّبت نقد الشعر من المعاصرة وجعلته متحايثا مع البنيوية، برؤية نصية تنشغل بالشكل لكنها لا تنسى المحتوى ولو بدرجة معينة. ولولا هذا النزوع الواعي ما كان لفكر نازك أن يتسم بالشمول متعايشا مع الفضاء الابداعي تعايشا به تصبح طبقات النص الشعري مراوغة في مدياتها ومتناظرة في دلالاتها.
ومن النقاد الذين أعترفوا لنازك بالريادة صلاح فضل الذي وجد في دراستها لهيكل القصيدة في كتابها( قضايا الشعر المعاصر) محاولة تطبيقية بنيوية، لا سيما وصفها لهذا الهيكل بالتماسك والصلابة والكفاءة والتعادل التي هي خصائص تشارف خصائص البنية.
وحقيقة الأمر أن ريادة نازك الملائكة النقدية لم تنحصر في كتابها أعلاه ؛بل شملت كتبها كلها، على وفق رؤية تريد استقلاب النقد العربي، دافعة بعجلته نحو الحداثة. ولهذا نجدها لا تبالي بالجمع بين نظرية النص ونظرية التحليل النفسي، أو بين السيرية والنصية، مبتغية ايجاد منطقة ثقافية في الدراسة النقدية سابقة لأوانها.
وهو ما تجسد في كتبها النقدية والنقد نقدية ومنها كتابها( الصومعة والشرفة الحمراء دراسة نقدية في شعر علي محمود طه) لاسيما مقدمته التي تصب في باب نقد النقد وفيها تناولت التحديد المعياري اولا لسمات التبويب الجيد الذي يحفظ للكتاب النقدي تماسكه من ناحية البناء الفكري والتسلسل الموضوعي، وثانيا توضيح كيفيات البحث والاستقراء والاستنتاج والدراسة التحليلية والصبر عليها حتى لا يكون النقد عابرا، وثالثا العنونة وما يشخص فيها من دلالات ورابعا التجربة الشعرية لعلي محمد طه وهو بيت القصيد الذي أولته نازك اهتمامها وطبقته على قصائد كثيرة وكالاتي:
اولا / معارضة نازك الرؤية الذكورية لنقاد عنوا قبلها بهذا الشاعر وهم أربعة: شوقي ضيف وانور المعداوي ومحمد مندور وسهيل أيوب. وأساس مخالفتها ما اسندوه للشاعر من عبثية واهوائية وحسية، فقدمت رؤيتها في شعره وأن فيه روحانية وانتشاء خالصا من كل لذة أو نفعية مع تلازم التوجهين الواقعي والجمالي. ورفضت نازك الملائكة تشبيه أنور المعداوي حب الشاعر علي محمود طه لامرأة واحدة بانه مثل العيش في غرفة واحدة، لانه ينطوي على نظرة خطيرة تقتل انسانية الانسان وتسلمه لقلة الاحساس والفوضى والمرض والجريمة وكأن الأصل في العاطفة الانسانية هو اللهو والعبث والمجون أو أن الوفاء لحبيب واحد هو التكلف والانحراف. وتساءلت:"والحق أني لا أفهم كيف فات المعداوي أن يلاحظ المعاني الفكرية العميقة في هذه الأبيات.. فالمشكلة هنا أبعد من مجرد حرمان من جسد المرأة كما يريد انور ان يستنتج" ص10
ذات مترامية
وفي هذا الطرح تستقلب نازك رؤيا العالم الذكورية التي ترى المرأة كيانا محدودا ضيقا ومسطحا كالغرفة إلى رؤيا نسوية للعالم فيها المرأة شاسعة بامتداد لا نهاية له، ككيان له هوية وكذات مترامية ذات عمق وثقافة وحرارة. ولا غرو أن هذه الرؤية للعالم متقدمة في وقتها، وما كان لنازك أن تستدل عليها لولا أنها انطلقت من الاختلاف، مراهنة عليه في التشبث بالتجريد والمعارضة التي تؤاخذ وضع النظرية أولا كرؤية منهجية ثم الاتيان بشعر الشاعر ليتم ضغطه ضغطا شديدا يلائم تلك النظرية.
ثانيا/ الاختلاف في رفض النظريات المتداولة التي تصفها نازك بالفاسدة في السوق الأدبي، باحثة عن نظرية جديدة ذات أفق نقدي جديد، نظرية تكشف لمن سيلحقها عن جديد تجترحه. وميزة الاختلاف التصارع بين المتضادين الجسد والروح، فالجسد كان بين يدي الشاعر علي محمود طه في مرحلته الروحية لكن عقله ساقه الى التعالي عليه ورفض الانغماس فيه.
ولقد أجلت نازك الابعاد الفكرية التي تنطوي عليها روحانية علي محمود طه من ناحية التعارض بين الجانبين: جانب الصومعة ( المرحلة الروحية) وجانب الشرفة الحمراء ( المرحلة الجسدية) ونازك مقتنعة أن الرؤية السيرية أو التاريخية التي تقتضي الرجوع الى أقرب الناس الى الشاعر ورسائله الشخصية هي رؤية تقليدية لكن اقترانها بالرؤيتين النفسية والجمالية سيزيدها عمقا وفلسفة. وهذه انتباهة نقدية سابقة لأوانها على مستوى النقد العربي أعني المزاوجة بين أثر السيرة والدراسة الخالصة و"أن الخطين يكادان يتداخلان حتى يصبحا خطا واحدا" ص15
وبهذا تدخل نازك الملائكة منطقة الوصف وتغادر منطقة التقدير، رافضة الأحكام العجلى التي لا تتأمل او لا تستغور الحدود الشاسعة، وهي القائلة: "كم اتمنى أن يتريث بعض نقادنا المولعين بصياغة النظريات قبل أن يدمغوا الشاعر الذي يدرسونه بحكم جازم صاخب جارف"ص13? وفي هذا إشارة بينة إلى مقتها للمتداول المنهجي متطلعة إلى منظور قرائي ذي منهجية جديدة.
كينونة كتابية
ثالثا/ التحول من كيان مكتوب عليه أن يكون ضحية للاخر( الناقد والناشر والمصحح اللغوي) إلى كينونة كتابية عليها أن تعترف، فتقول:" فصيغ حولي سياج عال من الفرضيات الخيالية، ولست أشك في أن سواي من الشعراء قد تعرضوا لمثل هذا الظلم أيضا فذهبوا طعما سهلا لنظرية هوجاء لا يعرفون لها أساسا في حياتهم" ص14 وكذلك عليها أن تكاشف قارئها بدواخل النقد لديها غير متوانية عن اعلان رغبتها في الاختلاف نقديا، كقولها :"حيرتني اسئلتي الكثيرة المتعلقة بما وراء شعر الشاعر من وقائع فجلست افكر ماذا أصنع لسد الثغرة"ص14.
وهنا ذكرت حادثة مع الشاعر صالح جودت ولانه كان زميلا للشاعر علي محمود طه كتبت له نازك رسالة ارادت فيها ان يمدها بالمعلومات فما كان من هذا الزميل الا ان قام بنشر الرسالة في احدى صحف القاهرة بدلا من أن يرد عليها. فاتهمته بقلة الذوق لعدم استئذانها في النشر ووسمته باللاحضارية وتقارن سلوكه بسلوك المثقف الغربي الذي يتحرج من نشر الرسائل حتى بعد وفاة كاتبها الا اذا اذن له اقرب الناس الى الكاتب المتوفى.
كما وجهت لبعض المصححين والناشرين الذين لم يحترموا مكانتها وقدرتها اللغوية فراحوا يغيرون في طباعة نصوص كتابها موضع الرصد جاعلين الصحيح غلطا، فمثلا شطب المصحح عبارتها( ساهم مساهمة) بالفعل الغالط الشائع( اسهم اسهاما) وأبدل(كلتا المسرحتين) ب( كلتي المسرحيتين) ظنا منه أن كلتا تعرب بالحروف حتى وهي مضافة الى اسم ظاهر وبجراة تصف نازك هذا الفعل وما يشاكله ب(صلافة الجهل) و( التعالم).ولا يقتصر لومها على المصححين وحدهم بل تتجاوزه الى بعض الناشرين الذين لا يقفون الى صفها في شكواها، من ذلك قولها :"كنت انتظر أن يكتب المدير الفاضل الي ويعتذر كما يفعل المنصف الذي يحترم حق المؤلف في اتخاذ وجهة النظر الاعرابية التي يرضاها فاذا هو يجيب بعصبية واضحة، محاولا أن يقنعني أن مصححه قد أسدى اليَّ يدا".