الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ذاكرةُ تمشي على قدمين

بواسطة azzaman

ذاكرةُ تمشي على قدمين

ثامر محمود مراد

 

ها هو الشيخُ العائدُ من ساحات الخدمة، يحملُ على كتفيه تاريخ وطنٍ كامل، لكنّه يقف اليوم عند بوابة الخريف ليكتشف أن الوطنَ الذي حرسه طويلًا، تركه في مهبِّ العوز. لم يبقَ له من سنوات العمر إلا ما يشبه الهامش، هامشٌ خفيفٌ على متنٍ ثقيلٍ من الوعود المؤجَّلة. هو لا يطالب بتلال من الذهب، ولا بسفرٍ إلى نخيل الرفاه، إنّما يريد قوتًا لا يُذِلّ، ودواءً لا يُستعصى، وكرامةً لا تُقايَض على أبواب الطوابير.

المتقاعد في هذا الوطن ليس رقمًا، بل ذاكرةٌ تمشي على قدمين، تحفظ تفاصيل البناء حين كان البناء حلمًا، وتُذكِّرُ الجميع أنّ الوطن لا يُشيَّد بالخرسانة فقط، بل بالعروق التي نبضت في المكاتب والمصانع والمدارس والمعسكرات. لكن حين اكتمل البناء، سُحب الكرسي من تحت هؤلاء الذين أقاموا الأعمدة. فصار الراتبُ الشهريُّ ورقةً باهتة، خجولة، لا تجرؤ على مواجهة الأسعار، ولا تقوى على حماية صاحبها من الحاجة.

هنا، يصبح الجوع مسألةً أخلاقية، والدواء قضيةً وطنية، والراتب الهزيل جريمةً صامتة تُرتكب كل شهر. فكيف لشيخوخةٍ يفترض أن تكون ظلًّا وارفًا، أن تتحوّل إلى صحراء؟ وكيف لشمس العمر أن تغيب بين فواتير لا ترحم؟ إنّ من يطيل الوقوف في الشوارع طوال سنوات عمره، يحقّ له أن يجلس اليوم بكرامة، لا أن يستعير قمحًا من الديون. هل يدرك صانع القرار أن المتقاعد حين يأكل نصف رغيف، ينكسر شيءٌ في وجدان الوطن؟ وهل يعلم أن حفيدًا يرى جدّه يقتات على القليل، يختزن في قلبه درسًا مرًّا عن العدالة، ربما يكبر فيه قهرًا بدل أن يكبر أملًا؟

من يُهمِل المتقاعد، إنّما يكتب بيده شهادة غيابٍ للوفاء. ومن يترك ذاكرة الوطن في العراء، سيستيقظ ذات يوم ليجد حاضرًا بلا جذور. فهؤلاء الذين أفنوا أعمارهم في الخدمة لم يطلبوا أكثر مما يستحق الإنسان: بيتٌ يأوي، سريرٌ دافئ، دواءٌ في متناول اليد، وخبزٌ لا تُذلّ أمامه كرامة. يا أيّها الوطن، إن كنت لا تستطيع أن ترفع رواتبهم، فارفع رأسك بهم، واذكر فضلهم، وأعد إليهم بعضًا مما أعطوا. فالعدالة ليست بندًا في موازنة، بل ضميرٌ لا يشيخ. والمتقاعدون ليسوا عبئًا، بل ذخيرة الوطن الأخيرة من الوفاء.

إنّ إصلاح حالهم ليس ترفًا، بل واجبٌ لا يقبل التأجيل. فمن لا يصون ذاكرته، لا يستحقّ أن يكتب مستقبله. ومن لا يحمي الشيخ الذي بنى البيت، لا يطمئنُّ لغدٍ يسكنُ أحفادُه سقفَه.

 

 

 

 


مشاهدات 50
الكاتب ثامر محمود مراد
أضيف 2025/12/20 - 5:48 PM
آخر تحديث 2025/12/21 - 12:24 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 28 الشهر 15139 الكلي 12999044
الوقت الآن
الأحد 2025/12/21 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير