لو ألعب لو أخرب الملعب
أحمد جاسم ألزبيدي
حيرة والله لا يحير عبده، لكن العراق منذ زمن بعيد قرر أن يكسر هذا المثل ويحيّر القاصي والداني. بلد يجمع بين العبقرية والـ“56” في معادلة فريدة لا تجدها في أي مكان آخر. فبينما ترى العراقي يتصدر المحافل الدولية ويحصل على جوائز لا تعد ولا تحصى، تجد في المقابل نوعاً آخر من العراقيين يجيد فن “اللعب على الحبلين”.
لكن ما يحدث في عراقنا الحبيب يجعل أكثر العباد حيرةً من خراب البصرة! فبلاد الرافدين، التي أنجبت أول حرفٍ وأول شريعةٍ وأول عجلةٍ، ما زالت – حتى اللحظة – تتفنن في إنتاج العجائب والغرائب، وتوزيعها بالتساوي على الشعب، من شماله إلى جنوبه ، حتى صار الرقم 56 ماركة وطنية متداولة أكثر من ماركة النفط نفسه.فعلى قدر ما يرفع العراقي اسم بلده في المؤتمرات الدولية، ويحصد الجوائز العلمية وكأنه يجمع طوابع بريد، تظهر لنا – في الجهة المقابلة – فئة جديدة أصبحت ماركة مسجلة هذه الأيام: فئة الـ»56»… تلك الكائنات التي تتكاثر بسرعة كتكاثر الأرانب، وتتنقل بيننا وكأن العراق صار غابة استوائية، كل ما فيها 56 يمشي على قدمين .
قصة طريفة
وخلال غربتي اكتشفت أن العراقي موجود في كل زاوية من الكرة الأرضية؛ إن لم تجده بروفيسوراً أو عالِماً، ستجده يستعد لتقديم “عرض تمثيلي” جديد من أجل مصلحة آنية. وأذكر قصة طريفة حدثت معي في الولايات المتحدة حين اتصل بي أحد العراقيين طالباً مرافقتَه إلى الطبيب بصفتي مترجماً. دخلنا على الطبيب، فسأله: “ما اسمك؟”. وما إن أنهى الطبيب جملته حتى تحوّل صاحبي إلى أخرس محترف! أخذ يهمهم ويشير بيديه وكأنه في مسرحية صامتة. اقتربت منه وقلت: “إذا أنت تدّعي أنك أخرس… ليش طالِب مترجم؟”. فأشار لي بالصمت. وبعد خروجنا ترجّاني: “مروتك أبو هلال لاتفضحني … أريد آخذ التقاعد”. وهنا فهمت أن الـ56 ليس مجرد حالة فردية، بل أسلوب حياة يتقنه كثيرون.
وتذكرت طريفة من أيام الحرب العراقية الإيرانية، حين جاءت لجنة تفتيش إلى إحدى الكتائب ووجدت جندياً يظهر اسمه بشكل غريب: شهر كامل في السجن… ثم شهر آخر في إجازة ! فاستدعاه رئيس اللجنة وقال له: «ولك شنو قصتك؟ تحجي الصدك لو أعدمك؟». فأجاب الجندي: «سيدي إذا تعطيني الأمان أحجيلك». وحين ضمن الأمان قال بكل برود:» آني متفق ويه جندي إيراني… يوم أنطيه دبابتي يذبّوني بسجن، ومن أطلع آخذ دبابته ويطوني إجازة!». أي أن الرجل كان يدير خدمة «تبادل دبابات» قبل اختراع الإنترنت!
سياسة عراقية
واليوم، بعد انتهاء الانتخابات، ندخل المرحلة الأكثر تشويقاً: انتظار رئيس الوزراء والتشكيلة الوزارية. هذه الفترة التي تتحول فيها السياسة العراقية إلى لعبة كراسي ، لكن بوجوه ثابتة وكراسي ثابتة والجمهور وحده يتغير. السياسيون يظهرون على الشاشات ليرددوا «الوطن أولاً»، بينما هواتفهم تعمل بنظام:» لو وزارة العب بيه لعب لو ما العب واخرب الملعب … لو نعيد الانتخابات من البداية!”. تتفاوض الأطراف، ترتفع الأصوات، تتقاطع المصالح، ونبقى نحن نراقب المشهد لنعرف: هل سنرى نسخة سياسية جديدة من قصة الجندي الذي كان شهراً بالسجن وشهراً بالإجازة؟ أم نسخة مطوّرة من صديقي الذي أصبح فجأة أخرس ليحصل على التقاعد؟ أم ربما سنرى وزراء من صنف الـ56 الذين يجيدون اختراع الأعذار أسرع مما يجيدون قراءة ملفاتهم الوزارية؟
في النهاية يبقى السؤال مفتوحاً: هل ستلد لنا الانتخابات حكومة حقيقية، أم ستلد لنا فريقاً جديداً من “الموهوبين” الذين يعملون على طريقة: “يوم سجن… يوم إجازة… يوم منصب… يوم صمت إعلامي”؟ الأيام القادمة ستكشف، أما المؤكد فهو أن الـ56 في العراق لا يزال يداوم… دوامَين!