الجيل الرقمي بات فقيراً
شاكر عبد موسى
على مر التاريخ، مرت البشرية بموجات تطور معرفي هائل، بدءًا من اختراع الطباعة في القرن الخامس عشر، مرورًا بانتشار الصحف في القرن التاسع عشر، وصولًا إلى البث الإذاعي والتلفزيوني.ومع ذلك، لم تشهد البشرية في أي من تلك المراحل حجم التشويش والتغيير الذي أحدثته الثورة الرقمية الحديثة.
منذ ظهور الهواتف الذكية عام 2007، انتقلت الإنسانية إلى نمط حياة جديد تمامًا، حيث لم يعد الفرد مستقبلًا للمعلومات فقط، بل بات يعيش في حالة تعرض دائم لها، أشبه بمن يتجول باستمرار في سوق مزدحم دون فرصة للانسحاب.وفي عام 2011، مع الانفجار الذي أحدثته وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي، وخصوصًا خلال أحداث الربيع العربي، ظهر شعور جديد بأن المعرفة لم تعد مجرد كيان خارجي منفصل عن الفرد، بل تحولت إلى جزء أساسي من يومياته وأفكاره. هذه المعلومات تؤثر على الإنسان بشكل مباشر؛ فتأخذ بيده لترفعه أو تهزه لتحطمه، وتعيد تشكيل رؤيته لنفسه وللعالم من حوله.لكن هذا الاتصال الفوري والمتواصل أثار مفارقة خطيرة: وفرة هائلة في المعلومات يقابلها فراغ داخلي لدى المتلقين. بات علينا التساؤل عن السبب وراء هذا العجز عن تحويل الكم الكبير للمعلومات إلى معرفة فعالة وذات قيمة.هل يتعلق الأمر بطبيعة الإنسان نفسه أم بطريقة إدارة هذه الثروة الهائلة من المعلومات؟ كيف أصبحنا في زمن تحيطنا فيه المعرفة من كل مكان، ولكننا نفتقد الفهم العميق والرصين؟.ليست هذه الأسئلة مجرد تعبيرات نظرية، بل انعكاس لما يعايشه الجيل الحالي بكل ثقله. فالجيل الرقمي بات فقيرًا بالمعنى وغارقًا في بحور من بيانات لا تحمل وزنًا أو اتساقًا واضحين.
الوسط المحيط اليوم يعج بمعلومات مختلطة ومتباينة يصعب على الفرد تمييز ما هو حقيقي منها وما هو زائف، ما يؤدي إلى تآكل المعايير التي تمنح هذه المعلومات قيمتها ووجهتها.الواقع يؤكد أن توافر المعلومات وحده لا يكفي لبناء معرفة، بل يعتمد ذلك على بيئة هذا التدفق المعلوماتي وآليات التحكم فيه. كثير مما يُعرض اليوم خاضع للانتقاء المتعمّد ويتأثر بمصالح تجارية، سياسية أو ثقافية. هذا الواقع يجعل إدراك المعنى الحقيقي للأحداث والمعطيات أكثر تعقيدًا ويبعثر صورة الواقع بين الحقيقة والتزييف، ما يؤدي إلى ضعف التماسك المعرفي لدى الفرد والمجتمع إجمالًا.من الناحية النفسية والمعرفية، يعيش الإنسان اليوم في حالة متأزمة من التشويش المستمر. قدرته الطبيعية على التركيز وتحليل المعلومات تتضاءل بفعل التدفقات اللامنتهية من البيانات المتضاربة والزخم الكبير الذي ينهك ذهنيته ويستهلك طاقته العقلية.
فالإنسان لم يكن معدًّا للتعامل مع مثل هذا الفيض المستمر، إذ كان العقل يعتمد سابقًا على آليات منظمة للاختيار والتركيز تتيح له فهم المعلومات بعمق، لكن اليوم تبدلت هذه الآليات بفعل البيئة الرقمية التي تفرض عليها طابع السرعة والانفعال اللحظي.ما يفاقم الوضع هو جيل العصر الرقمي الذي يبقى مستمر الاتصال بالمستجدات العالمية والمحتوى اللامحدود، لكنه بالمقابل يفتقر إلى الأدوات اللازمة للنقد والتحليل، ليصبح إنتاج المعرفة العميقة تحديًا لا يتحقق بسهولة. ونتيجة لذلك، يغرق هذا الجيل بوعي سطحي يرتكز على الانطباعات العابرة، مما يمنعه من بناء منظور شامل ومتناسق للعالم.لا يبدو أن هذا الوضع جاء بالصدفة. البيئة الرقمية الحديثة مصممة بعناية لتصنيع التشويش والسيطرة على الانتباه، حيث يُحدد المحتوى الذي يصل للفرد بناءً على خوارزميات ومصالح تجارية وسياسية. النتيجة هي جمهور عالق في دوامة ردود الأفعال والانفعالات السريعة التي تُعاد تدويرها لخدمة أجندات عدة.ومن الجانب الفلسفي والمعرفي، يزداد الوضع سوءًا عندما تنخفض قدرة الفرد على استيعاب ذاته ومراجعة داخله. العديد من الدراسات النفسية الحديثة تربط بين الاستهلاك المفرط للمعلومات وبين الصعوبة المتزايدة في بناء فهم متماسك للحياة. ما يجعلنا نشهد حالة عميقة من التشتت الذاتي والمعرفي.