الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
قراءة لقصيدة "آنو" للشاعر العراقي رياض الدليمي


قراءة لقصيدة "آنو" للشاعر العراقي رياض الدليمي

مقاربة تقنية حديثة لمقال نقدي كتبته الأستاذة نادية عوض على نفس القصيدة

 

حسن غريب أحمد

ناقد باحث مصري

 

أولًا: ملاحظات حول المنهج

اعتمدت القراءة الأولى لقصيدة "آنو" منهجًا ذا طابع رمزي–أسطوري، قائمًا على تمثّل الميثولوجيا السومرية واستثمارها في الكشف عن خطاب القصيدة الوطني–الوجداني.

غير أنّ هذه القراءة بقيت ضمن نطاق التأويل الانطباعي أكثر من كونها قراءة تُخضع النص لتحليل بنيوي أو سيميائي.

ومن ثمّ، فإنّ مهمّة نقد النقد هنا هي بيان ما أصابته القراءة وما أغفلته، ثم اقتراح إطار تحليلي يضبط العلاقة بين الأسطورة والنص، وبين العاطفة والبنية.

 

ثانيًا: التحليل السيميائي

السيميائيات تنظر إلى النص بوصفه شبكة من العلامات. وعليه، تتشكل قصيدة "آنو" من ثلاث علامات مركزية أغفل النقد الأول قراءتها بوصفها بنى رمزية لا مجرد استعارات:

 

1. علامة آنو: رمز العلوّ أم بنية السلطة؟

القراءة الأولى جعلت آنو رمزًا للخصب المفقود، لكنّ موقعه في النص يتجاوز ذلك إلى كونه:

علامة سلطة كونية

مرجعية غائبة

مركز نظام الكون

غياب آنو ليس غيابًا روحيًا، بل انسحابًا للسلطة الكلّية، أي تفكك النظام من قمّته، وهو خطاب سياسي مُموَّه داخل رمز أسطوري.

 

2. علامة الأرض–الأنثى: جسد الوطن

النقد الأول قرأ الأنثى بوصفها استعارة حسية، لكنه لم يلتفت إلى أنّ الأنثى في النص:

هي الأرض

وهي العراق

وهي المتكلم الحقيقي للنص

وهي علامة الضحية والمصلوبة

 

بهذا، تتحول القصيدة إلى حوار بين: أنثى أرضية (كي)

وذكر سماوي (آنو)

 

وهذا يعود إلى الميثولوجيا الرافدية حيث الخلق بدأ بتلاحم هذين القطبين.

غيابهما معًا = انهيار نظام الخلق.

 

3. علامة الماء: ليست ماءً بل زمن

في القصيدة، الماء ليس عنصرًا طبيعيًا، بل زمن الخصب.

غيابه ليس جفافًا بل تجمّدًا للدورة الكونية للولادة.

وهذا يتوافق مع الأساطير الرافدية حيث الماء أبزو) هو المادة الأولى للكون.

 

القراءة الأولى أشارت لجفاف الروح، لكنها لم تربط هذا الجفاف بالبنية الأسطورية المؤسسة لفكرة الخلق في العراق القديم.

 

ثالثًا: التحليل الأسلوبي

الأسلوبية لا تُحلّل المعنى فحسب، بل تراقب كيف يتشكّل المعنى عبر اللغة.

 

1. خطاب النداء

تتكرر صيغة النداء "يا آنو" بوصفها:

فعل استغاثة

فعل محاكمة

فعل شغف

 

والقراءة الأولى اكتفت بالجانب الوجداني، بينما النداء في القصيدة هو أداة توتير لغوي تحوّل القارئ إلى شاهد على محاكمة سماوية.

 

2. التوازي الإيقاعي بين الحياة والموت

ثمة توازٍ بين:

 

"ذبل العنب" «=» "بارت الروح"

 

"تشقق الشفاه" «=» "صمت المعابد"

 

هذا التوازي يظهر "البنية الإيقاعية للخراب"، وهي بنية لم تتوقف عندها القراءة الأولى.

 

3. انزياحات الدلالة

الشاعر يستخدم لغة تصعيدية تعتمد على:

نقل الزراعي إلى العاطفي

نقل الحسي إلى الرمزي

نقل الإلهي إلى الإنساني

 

القراءة الأولى أدركت هذه الانزياحات لكنها لم تحلل وظيفتها بوصفها استراتيجية لإعادة كتابة الأسطورة من الداخل.

 

رابعًا: التحليل الأسطوري (الميثو-نقد)

الميثو–نقد يدرس الأسطورة بوصفها بنية معرفية، لا صورة شعرية فقط.

 

1. قلب اتجاه العلاقة بين البشر والآلهة

في الأسطورة، آنو هو من ينزل إلى البشر،

أما في القصيدة، فالبشر هم من يصعد عتابًا إليه.

هذا انقلاب أسطوري دلالي مهم لم توضّحه القراءة الأولى.

 

2. استعادة نموذج "الخصب واليباس"

العراق في النص = بلاد ما بين النهرين قبل نزول تمّوز

أي قبل اكتمال الدورة الخضراء.

غياب البنات المقدسات ليس مجرد فقدان طقس،

بل هو تفكك دورة الخلق التي تثبّت الكون الرافدي.

 

3. إعادة تعريف الإله بالحب

في الميثولوجيا الرافدية، الآلهة محكومة بعلاقات غرامية وصراعات.

الدليمي يذهب أبعد من ذلك:

يحول الإله إلى حبيبٍ مُقَصِّر.

وهذا انزياح جريء يعيد رسم العلاقة من "قداسة" إلى "وجدانية".

 

خامسًا: القراءة الخطابية

الخطاب هنا يقوم على جدلية:

خطاب الأرض

فيه لوعة، وندبة، وعتاب، وملامح أنثوية.

خطاب السماء

صامت، غائب، متعالٍ.

القصيدة ليست مجرد استعارة بل مسرح لغوي بين طرفين غير متكافئين.

القراءة الأولى اكتفت بتوصيف العتاب ولم تُبرز البنية الدرامية للنص.

 

سادسًا: البعد السياسي–الرمزي

القراءة الأولى ألمحت ولم تُصرّح.

الحقيقة أن القصيدة تُشفّر:

الحرب

التهجير

الخراب

سقوط الدولة

انهيار المركز

تصدّع الزمن العراقي

وكلها تُقال من خلف ستار الأسطورة لتجنّب المباشرة.

 

سابعًا: إعادة تقييم القراءة الأولى

ما نجحت فيه القراءة:

 

1- ربط جميل بين الأسطورة والعاطفة

2- التفسير العرفاني للخصب بوصفه عشقًا

3-الانتباه للجسد الأنثوي كمرآة للخراب

4- كتابة وجدان موازٍ للنص

 

ما أغفلته القراءة:

التحليل البنيوي

وظيفة النداء

ديناميكية النص

البعد السياسي المشفّر

علاقة الماء بالزمن

العلاقة الأسطورية المؤسسة بين الأرض والسماء

تحليل خطاب المتكلم والمخاطَب

 

تتمة نقد النقد:

إن قراءة قصيدة "آنو" لا يمكن أن تكتمل إلا بوعي تعدديّ:

الميثولوجيا، العاطفة، الأسلوب، السياسة، الجسد، الماء، الإله، التاريخ، والأنثى.

القراءة الأولى كشفت جانبًا مهمًا من النص، لكنها ظلت في أفق التأويل العاطفي–الأسطوري.

أما القراءة التقنية فتُظهر أن الشاعر رياض الدليمي لا يبكي العراق فحسب،

بل يعيد كتابة أسطورة الخلق الرافدية في صورة وطن يسأل إلهه:

لماذا خُلِق الخراب بدل الخصب؟

ولماذا يُترَك العاشق في صحراء بلا مطر؟

إنه ليس عتابًا بل محاولة لاستعادة النظام الكوني المفقود.

 


مشاهدات 42
الكاتب حسن غريب أحمد
أضيف 2025/12/06 - 4:58 PM
آخر تحديث 2025/12/07 - 12:23 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 28 الشهر 4557 الكلي 12788462
الوقت الآن
الأحد 2025/12/7 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير