هل نُعلّم من أجل العمل.. الطالب يبني معنى لحياته
اسامة ابو شعير
سؤال جوهري يتجاوز الوظيفة
في خضمّ الضجيج المتصاعد حول المهارات وضرورتها لسوق العمل، ينساق كثير من التربويين ـــ من حيث لا يشعرون ـــ نحو تحويل المدرسة إلى ما يشبه خط إنتاج أكثر من كونها فضاءً للتكوين. مدرسة تخرّج أفرادًا يملكون مهارات تقنية وإدارية قد تؤهلهم للوظيفة، لكنها في كثير من الأحيان تفشل في إعدادهم للحياة، وفي تزويدهم بما يجعلهم قادرين على اتخاذ قرارات تحمل أثرًا، أو بناء مسار وجودي يمتدّ إلى ما هو أبعد من الراتب والوظيفة. ومع تزايد الضغوط الاقتصادية وتسارع التحولات التقنية، أصبح الاختزال مغريًا: نعلّمهم ليعملوا، لا ليعيشوا. لكن الواقع يكشف أن الطالب الذي يملك مهارة بلا بوصلة هو مشروع أزمة مؤجلة، لا مشروع إنسان فاعل.مهارات بلا بوصلة… وأثر بلا معنىوهنا يبرز السؤال الذي يشكّل جوهر الإشكال التربوي اليوم: هل نعلّم الطالب ليعمل… أم لنساعده على بناء معنى لحياته؟ وهل المهارة غاية مستقلة، أم أداة لبناء ذات تمتلك الاتجاه والضمير والمسؤولية؟ هذه البوصلة الإنسانية، بأبعادها الأخلاقية والاجتماعية والوجودية، لا تُبنى عبر تلقين مهارات منفصلة، بل عبر تعليم يربط المعرفة بالضمير، والعمل بالمسؤولية، والمستقبل بفكرة الأثر الذي يتركه الإنسان من حوله. فما قيمة مهارة بلا اتجاه، وما جدوى كفاءة لا تحمل رؤية لما ينبغي أن يكون عليه العالم؟
الإنسان قبل المهنة
العالم اليوم لا يحتاج فقط إلى مزيد من المهندسين والأطباء والمبرمجين، بل يحتاج إلى بشر يفهمون أثر قراراتهم، ويدركون مسؤوليتهم تجاه الآخرين، ويعرفون لماذا يفعلون ما يفعلونه. إنّ الإنسان الذي يمتلك الحس الأخلاقي والقدرة على التفكير النقدي هو القادر على إعادة تشكيل واقعه، لا مجرد التكيّف معه. ومن دون هذا البعد القيمي، تتحوّل المهارة إلى أداة صمّاء؛ قد تُستخدم في البناء كما قد تُستخدم في الهدم. والتاريخ مليء بأمثلة لأفراد كانوا بارعين في مهاراتهم، لكن افتقارهم للبوصلة جعل إنجازاتهم قصيرة الأثر أو مشوبة بالضرر.
تجربة تستحق التأمل: كيف نجا 600 طالب في تسونامي اليابان؟
وتقدّم تجربة اليابان خلال تسونامي عام 2011 مثالًا بالغ الدلالة على قيمة المهارة حين ترتبط بالوعي واتخاذ القرار. ففي إحدى المدارس على الساحل الشرقي، نجح نحو 600 طالب في النجاة رغم أن موجة التسونامي كانت بارتفاع غير مسبوق. لم يكن إنقاذهم نتيجة تعليمات من الكبار، بل ثمرة مهارة تربوية تُعرف بـ”التفكير العملي في حالات الطوارئ”. فقد درّبتهم المدرسة على تحليل الموقف سريعًا، ومقارنة الخيارات، واتخاذ القرار الأكثر أمانًا دون انتظار أوامر. وبينما لجأ سكان المنطقة إلى مبنى المدرسة للاختباء، تذكّر الطلاب تدريباتهم السابقة، وأدركوا أن المكان غير آمن، وأن عليهم الوصول إلى أرض مرتفعة فورًا. فاتخذوا القرار في ثوانٍ، وتحركوا جماعيًا إلى أعلى التلال المجاورة، قبل دقائق فقط من اجتياح الموجة للمبنى بالكامل. هذه الحادثة، التي تُدرّس اليوم في اليابان كنموذج للتعلم من أجل الحياة، تؤكد أن المهارة التي تُنقذ حياة اليوم، يمكن أن تبني مجتمعًا أكثر وعيًا غدًا.
رؤية اليونسكو للتعليم كصناعة للمعنى
وتزداد أهمية هذا الربط بين المهارة والقيمة في ضوء التغيّرات العالمية المتسارعة. فالتقارير الدولية، ومنها تقرير اليونسكو “Reimagining Our Futures Together”، تؤكد أن التعليم لم يعد مجرد مسار لاكتساب المعرفة، بل أصبح مشروعًا لبناء الإنسان القادر على التفكير النقدي، والتصرف الأخلاقي، والمشاركة في صناعة مستقبل عادل ومستدام. فالمهارة في جوهرها ليست نهاية الرحلة، بل بدايتها؛ ولا تكتسب معناها الحقيقي إلا حين تتحول إلى أداة لفهم الذات وخدمة المجتمع وإبداع حلول تتجاوز المألوف.
التجربة الفنلندية… حين تُربط المهارة بالغاية
وتقدّم التجربة الفنلندية مثالًا واضحًا على هذه الرؤية. ففي المنهاج الوطني، تُدمج المهارات العابرة للمواد كجزء أصيل من بناء الطالب، مثل التفكير الممنهج ووعي الذات والعدالة والمشاركة المجتمعية. لا تُدرّس هذه الكفاءات في حصص منفصلة، بل تمتد في المشاريع وطرق التقييم والثقافة الصفّية. ويقول الخبير الفنلندي باسي سالبيرغ إن نجاح هذا النموذج يعود إلى أن المهارة لم تُفصل عن الغاية، بل خضعت للسؤال: من أجل ماذا نعلّم؟ فليس المهم أن يجيد الطالب تنفيذ مهمة معينة فقط، بل أن يدرك أثرها وسياقها، وأن يربط ما يتعلمه بصورته عن العالم وبمسؤوليته تجاهه.
واقعنا العربي… المسافة بين الخطاب والممارسة
وفي العالم العربي، ورغم مبادرات واعدة في بعض الدول، لا يزال الطريق طويلًا. فكثير من المدارس تربط النجاح بالشهادة لا بالأثر، وتستبدل المعنى بالحفظ، وتقدّم الامتحان على التجربة، وتتعامل مع الطالب بوصفه متلقيًا لا فاعلًا. وفي العراق، تتضاعف أهمية هذه الأسئلة في ظل التحديات البنيوية والاقتصادية والاجتماعية التي تتطلب تعليمًا يعيد بناء الإنسان قبل أن يعيد بناء المؤسسات.
نحو تعليم يربط العقل بالقلب
والتعليم الذي يمتلك القدرة على صناعة الغد هو ذاك الذي لا يفصل بين المهارة والمعنى، ولا بين العمل والضمير، ولا بين العقل والقلب. المعلم في هذا النموذج لا يدرّس البرمجة بوصفها مهارة تقنية، بل وسيلة لحل مشكلات تخدم المجتمع. ولا يدرّس اللغة بوصفها نصوصًا وقواعد فقط، بل أداة لفهم الذات وبناء الجسور مع الآخر.
التعليم الذي يبحث عن أثر
وقد أشرتُ في مناسبة سابقة إلى أن مدرسة المستقبل لا تصنع العامل الماهر فقط، بل الإنسان المتزن، المفكر، صاحب الرسالة. وهذه الفكرة لا تعبّر عن حلم مثالي، بل عن ضرورة تربوية في عالم يتغيّر بسرعة غير مسبوقة. فالتعليم الذي يهيّئ الطالب للحياة هو ذاك الذي يساعده على إدراك موقعه من العالم، وعلى طرح الأسئلة الصحيحة، وعلى بناء علاقة صحية بين ما يتقنه وما يؤمن به، بين ما يعرفه وما يريد أن يفعله في حياته.
خاتمة
في زمن الذكاء الاصطناعي واللايقين، يصبح السؤال الذي ينبغي أن يشغل كل مؤسسة تعليمية وكل صاحب قرار تربوي: هل نعلّم أبناءنا كيف ينجون… أم لماذا يعيشون؟ كيف يبحثون عن أثرهم في هذا العالم؟ وكيف يضيفون إليه قيمة لا تختزلها درجة أو شهادة؟ فالتعليم الذي يملأ الذاكرة لن يبني مستقبلًا، أما التعليم الذي يوقظ الوعي، ويُحرّك الضمير، ويُنمّي القدرة على اتخاذ القرار، فهو القادر على صناعة الإنسان… وصناعة الغد.
خبير اقتصادي و مستشار دولي في التعليم والتنمية