الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
من أدب الرحلات.. أرزا قرية عبرها الزمان وترك في تربتها صوت شاعر

بواسطة azzaman

من أدب الرحلات.. أرزا قرية عبرها الزمان وترك في تربتها صوت شاعر

بدل رفو

 

أرزا… حيث ينام الشعر بين الجبل والينبوع

لم تكن رحلتي إلى كوردستان مجرد هروبٍ من المدن أو محاولة للبحث عن الطبيعة، بل كانت رغبةً في ملامسة الأمكنة التي تُنبت الشعر كما تُنبت التربةُ العشب.

كنتُ أسمع كثيراً عن جبل متين، عن تلك الكتلة الجبلية التي تحرس السماء من الانحدار، ولكنني لم أسمع كثيراً عن القرية الصغيرة التي تقبع عند قدميه مثل خاتمٍ منسيّ… قرية أرزا

كان الطريق إليها يتلوّى بين التلال مثل حكايةٍ طويلة، وكلما اقتربنا ازدادت الأرض اخضرارًا، وبدأ الهواء يكتسب نكهةً تشبه نكهة الغابات الأولى حين كانت الأرض ما تزال طفلة وفي لحظةٍ غير متوقعة، ظهرت القرية أمامي… هادئة، خجولة، وكأنها تستعد لأن تحكي أسرارها لمن يعرف الإصغاء

هنا تبدأ الحكاية… قرية بعدد قليل وقلب كبير

قال صديقي وهو يشير إلى البيوت المتناثرة

هذه هي أرزا… لم يبقَ فيها غير 146 نسمة، ولكن كل واحد منهم يساوي كتابًا

ضحكت، ثم أدركت سريعاً صدق ما قال

متحف مفتوح

فالقرية، على بساطتها، لم تكن مكاناً عادياً. كانت متحفاً مفتوحاً للروح، مليئة بعطر الرمان والتين، وبالوجوه التي تشبه العشب في استقامتها ونقائها. الهواء هنا ليس هواءً فقط، إنه ذاكرة رائحته خليط من تبغٍ قديم كان يزرعه شاعر، ومن مياه ينابيع تخرج من قلب الحجر كما تخرج القصيدة من قلب الإنسان.

كل شيء في أرزا يذكّر بأن الماضي لم يذهب… بل يقيم مع أهلها في سلامٍ لا يشبه إلا الجبال.

بكر بك الأرزي… الشاعر الذي صنعته الطبيعة

لم يدخل اسمي هذه القرية، بل دخلتُها باسمٍ آخر

اسم الشاعر الكوردي الكبير بكر بك الأرزي (1740–1840)، ابن هذه الأرض، ابن الينابيع والرمان والتبغ والبساتين

هنا وُلد، وهنا كتب، وهنا رحل… وكأن حياته قصيدة طويلة منسوجة بين جذور الأشجار.

يقول أهل القرية إنه كان يصف العالم وكأنه يراه للمرة الأولى

ولم أتفاجأ فالحياة في أرزا ليست شيئاً يُشاهَد، بل يُشعَر به… يُلمَس كما يلمس الضوءُ أوراق الشجر

أخبرني المختار العم علي نوري بحسرةٍ هادئة

كنا نريد نصب تمثال له… قال لنا الشاعر الراحل صديق شرو: فقط 60 ألف دينار! أليس قليلاً على شاعر بهذا الحجم

لكن القدر، كما يبدو، لم يعطِ أرزا ما يكفي من العدالة. ومع ذلك

تحقّق الحلم أخيراً، حين نحت الفنان أرشد خلف تمثالاً للشاعر بكر بك الأرزي، يعيد إليه بعضاً من الضوء الذي حُرم منه طويلاً

وكم بدا المشهد مدهشًا: شاعر خرج من التاريخ ليعود إلى قريته حجرًا وقامةً وصمتاً يليق بالشعراء.

المقبرة… الفصل الأخير من قصيدة طويلة

كان لابدّ من زيارة قبر الشاعر

المقبرة تقع في مكان هادئ، مُسيّجة بسورٍ جديد بناه أهل القرية، كأنهم أرادوا حماية رقدته كما حمَوا ذكراه

وقفت أمام قبره طويلاً.

لم أشعر بالحزن كما توقعت، بل بشيء آخر يشبه الطمأنينة… كأن الأرض نفسها تقول: هنا، لا يبلى الشعر. هنا، ترقد الكلمات من دون خوف.

تذكرت حينها الشاعر صديق شرو، الذي كتب سيناريو عن الأرزي وظل يحلم بتحويله إلى فيلم، لكنه غادر قبل أن يرى حلمه يمشي على قدميه .

في أرزا، يبدو أن الشعراء يلتقون دائماً… حتى بعد موتهم.

الأرض التي سبقت التاريخ

في الطريق إلى المدرسة الحديثة – التي شُيّدت عام 1996 – حدثني أحد الرجال أن العمال أثناء الحفر عثروا على عظامٍ ومجوهراتٍ معدنية.

ابتسم وهو يقول:

هذه الأرض قديمة… قديمة أكثر مما تتخيل. قبل الميلاد كانوا يسكنون هنا

حين سمعت ذلك، شعرت أن خطواتي تسير على قرونٍ طويلة، وأن الزمن في أرزا ليس خطاً مستقيماً، بل طبقات من البشر والحكايات والأحلام

سيده ركى… ثم أرزا

كان اسم القرية قديماً «سيده ركى» أي الأبواب الثلاثة

اسم يفتح شهية الخيال

ما هذه الأبواب؟

إلى أين كانت تقود؟

ومن عبرها أول مرة؟

لاحقاً تغيّر الاسم إلى أرزا، نسبةً إلى حقول الرز التي كانت تنتشر بكثافة.

وفي هذا التغيير شيء يشبه انتقال القرية من عالم الأسطورة إلى عالم الأرض… دون أن تفقد سحرها الأول.

الينبوع… قلب القرية النابض

في وسط أرزا ينبع ماءٌ صافٍ كأنه مرآة مصقولة..

جلست قربه طويلاً أشاهد الأطفال يلعبون، والنساء يغسلن الخضرة، والرجال يتبادلون الحديث كما لو أن العالم كله مختصر في هذا المكان.

الينبوع كان أكثر من ماء، كان ذاكرة جماعية، يروي قصص من مرّوا… ومن لم يعودوا.

بانكا وأرزا… كأختين قديمتين

ليس بعيداً من هنا تقبع قرية بانكا، القريبة في الروح أكثر من قربها في المسافة..

يقولون إن بانكا هي «قرية الأسياد»، وإن أرزا كانت دائماً جارتها الوفية، تشاركها الأفراح والأحزان… والثورات أيضاً

فالقرية كانت مركزاً للثورة الكوردية حتى عام 1988، حين أصبحت هدفاً لعمليات الأنفال. ومع ذلك… صمدت.

بعض القرى تُهدم حجارتها، وأخرى تُهدم ذاكرتها… وأرزا لم تُهدم فيهما معاً

قلعة الأرزي… بين الشعر والسلاح

في غرب القرية، حيث كانت قلعة الشاعر بكر بك الأرزي قائمة، لم يبقَ الكثير. هدمها جيش الأمير محمد الراوندوزي إبّان الحرب بين إمارة بهدينان وسوران..

وكم هو غريب أن تتحول قلعة شاعر إلى ثكنة.

تذكرت قلعة ريلكه في ترييست الإيطالية التي أصبحت مزاراً عالمياً لعشاق الشعر

وتساءلت:

لماذا لا يكون للأرزي ما لريلكه؟

الوداع

والنظر إلى الخلف

حين بدأتُ النزول من القرية، كان المساء يهبط سريعاً، ووجه جبل متين يضيء بلونٍ ذهبي يشبه نهاية فصلٍ جميل في كتابٍ عزيز

نظرت إلى الخلف مرةً أخيرة

رأيت أرزا كما لو كانت امرأةً عجوزاً جميلة، تجلس عند باب الزمن وتبتسم لزائرٍ فهم لغتها دون مترجم

عرفت عندها أن هذا الفصل لن يكون الأخير

وأن أرزا، التي تضم إرث الإنسانية كما قال أهلها، ستظل تعود إليّ في ليالٍ كثيرة، حين أبحث عن مكان يجعلني أؤمن أن الشعر يمكن أن يكون وطناً.


مشاهدات 34
الكاتب بدل رفو
أضيف 2025/12/01 - 5:52 PM
آخر تحديث 2025/12/02 - 12:29 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 25 الشهر 813 الكلي 12784718
الوقت الآن
الثلاثاء 2025/12/2 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير