در الوفى أم البنين إنموذجاً
جبار فريح شريدة
في ذكرى وفاتها , يُعدّ الوفاء من أسمى القيم الأخلاقية التي تتجذّر في التراث الإنساني عامّة، وفي التاريخ الإسلامي بخاصة. فهو خُلُق يعبّر عن رسوخ المبادئ، وثبات العهد، والالتزام بالحق مهما تغيّرت الظروف. ومن الشخصيات التي برزت مثالًا متفرّدًا لهذه القيمة السيدة فاطمة بنت حزام الكلابية، المعروفة بأمّ البنين، زوجة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) وأمّ العباس وإخوته (ع).
دخلت أمّ البنين بيت علي (ع) وهي تدرك أنّها لا تحلّ محلّ فاطمة الزهراء (ع) في قلوب أبناء زوجها، فاختارت الوفاء للرسالة قبل الوفاء للمكانة. عاملت الحسن والحسين وزينب (ع) معاملة الأم الرؤوم، ووقفت موقف الخادم المتفاني في رعاية أبناء النبي (ص)، فكان ولاؤها لهم امتدادًا راسخًا لولائها لعلي (ع) نفسه.
ربّت أبناءها الأربعة—العباس، عبد الله، جعفر، وعثمان (ع)—على الولاء للحسين (ع) والطاعة المطلقة له. لم تتردّد في تقديمهم مشروعين للشهادة، بل كانت ترى نُصرة الحسين واجبًا لا يعلوه واجب. واللافت أنّها لم تطلب لأحد منهم سلامة شخصية، بل أوصتهم بأن يكونوا سيوفًا بيد الحسين (ع)، متمّمين لمسيرة الحق.
بعد واقعة كربلاء، ظهرت عظمة وفاء أمّ البنين بأوضح صورها. كانت تستقبل المعزّين وهي تسأل عن الحسين قبل أن تسأل عن أبنائها. وعندما بُشّرت باستشهاد العباس (ع)، قالت كلمتها الخالدة:
“قطعتَني يا هذا، أخبرني عن الحسين.”
بهذا الموقف أثبتت أنّ ولاءها لم يكن عاطفة أمّ، بل إيمانًا بالقضية التي بُذلت من أجلها دماء أبنائها. وهنا نسأل سؤال : لماذا تُعدّ أمّ البنين أنموذجًا للوفاء؟
لأنها قدّمت الرسالة على العاطفة.
لأنها جعلت أبناءها فداءً للحق دون تردّد.
لأنها بقيت ثابتةً بعد المحنة، فحوّلت الألم إلى موقف رسالي.
لأنها جسّدت مفهوم الوفاء المبدئي لا الوفاء العاطفي وحده.
إنّ أمّ البنين (ع) ليست مجرد أمٍّ لأبطالٍ استشهدوا في كربلاء، بل هي مدرسة في الوفاء؛ وفاء للحق، ولأهل الحق، وللقيم التي آمنت بها. ومن خلال سيرتها تتجلّى معاني التضحية، والثبات، والصدق، ما يجعلها أنموذجًا خالدًا يُستضاء به في فهم قيمة الوفاء ودورها في بناء الإنسان والمجتمع.