التعالق الجدلي بين (الأنا) و(الآخر) ــ قراءة سيرية في شعر عبد الجبار الجبوري
كمال عبد الرحمن
السيرة الذاتية هي عبارة عن قصة يكتبها شخص عن نفسه كاملة ودقيقة بتقانات فنية ووقائع حقيقية، ويشمل ذلك جميع الاشخاص الذين يتعالقون سلبا وايجابا مع حياة السارد، ويفضل ان يكون السرد بضمير المتكلم وهو الشخصية الرئيسة او المركزية في السيرة وهو أيضا( الأنا) الراوية العالمة بكل تفاصيل وحيثيات السيرة، والسيرة قد تطرح في نماذج نثرية وشعرية وسردية،كما ان تطور النماذج البنائية للقصيدة الجديدة ارتبط منذ البداية بطبيعة استجابة النوع التشكيلي الشعري لمقتضيات هذه النماذج ومعطياتها بدليل ان القصيدة العربية القديمة لم تخضع طوال عمرها الشعري لتطور بنيوي متباين في انموذجها باستثاء محاولات خجولة لايعتد بها ولايمكن ادراجها في سياق حداثي،فضلا عن ان الواقع الجديد الذي صاحب النقلة الشعرية الكبرى مطلع الخمسينيات فرض اجناسا ادبية وفنية جديدة بتاثير الاتصال الحضاري مع الغرب فكانت الافادة متزايدة من انجازات الفنون الاخرى ومن المعطيات النقدية االعالمية وصولا الى ادراك نسبي لضرورة اخضاع البناء للحالة النفسية التي تسود التجربة الشعرية ومقتضيات الموضوع الشعري، ويمكن تعريف«الأنا» حسب المعجم العربي بأنه ضمير متكلم قائم بذاته ولذاته، ولا ينازعه، أو يشاركه في ذاتيته وبصفته آخر، فهو مستقل عن غيره، وان كان منتجاً له وناتجاً عن علاقته به، والأنا في هذه الحالة، متقلص في مساحته، مسكون بنزعته الفردية، وقابع في مكانه وزمانه، ولكنه متوسّع في علاقته بالضمائر الأخرى و بها، حركة وسكوناً.
يشتغل شعر عبد الجبار الجبوري بصورة عامة على جدلية " الأنا" و"الآخر" الى حد التماهي، الى حد يمكن فيه وصف الأنا بأنها الآخر والعكس صحيح:
هي تقرأ الواح الليل ..،
على سرر الموج...
ويفضح أسرارها البحر ..
أنا البحر في أعلى مدائح الوقت..
أنا بحة صوتها العالي..
أنا قبلة خجولة ....،
على شفاهها..
أنا طفل عاشق بين يديها...
أنا عصفور ....،
حزين على نافذتها..،
أرتل نشيد حبها ...
فهل طغيان (الأنا) و(الذات) في النص وما لهما من سلطة أنوية،بمقدورهما أن يغرقا القصيدة في الغنائية؟،التي ربما اتهمها بعضهم بالخطابية والمباشرة والتقريرية،لتحل محل أجواء درامية ذات شحنات ديناميكية لها القدرة على تفجير اللغة في القصيدة، بدلا من انتشالها واخراجها من قمقم الذات وقوقعات (الأنا)،ان ((الشعر العربي الحديث قد أدرك قصور الشعر الغنائي عن استيعاب تجربته الانسانية الادبية التي بدأت تميل على الشمولية والكونية)) وتمثل الأنا الشاعرة ــــ بوصفها فاعلا شعريا نائبا عن الشاعر في ميدان العملية الشعرية ـــ المركز البؤري الأساس والجوهري،الذي يجب فحصه ومعاينته وتأويله حين يتعلق الأمر بأي اجراء قرائي يغامر باقتحام القصيدة، انها الأسئلة، شعرية الأسئلة كما في (نصوص ترقص في الظلام):
اسرق من شفتيها عسل الطفولة البعيد،وترسمني عيناها على سن رمح جديد بهجة لانوثتها ،القصائد تهجر الوقت في مواسمها ،والطيور تهجر الاعشاش في مواسمها،والاشجار تهجر الاغصان في مواسمها ،وأنا تهجرني قبلة على شفتيها ،فكيف تلتقي الشفاه والليل نائم ،وقلبي جريح،كيف تهجرني المواعيد ،والوقت ذبيح، رمتني بسهمها الخيول وانكرتني القوافل الى عينيها ،صوتها يرتل ادعية ومزامير وأناشيد وطن حزين،اناجيلها تمائم روحي ،روحي المبللة بالخيبات،وقلبي الملفع بحبها ،سيدتي انوثتك طاغية وجرحي عميق،افتحي لي ابوابك المقفلة بالرحيل ،كي تمر خيلي الصاهلة بالعذاب،العذاب انت ،ونهداك زماني القتيل...
وواضح هنا أن السيرة مشتركة بين " الأنا " و"الاخر" الى حد التعالق النفسي والروحي، فالجدلية واضحة في عملية طرح الأسئلة:
اسرق من شفتيها عسل الطفولة/ ترسمني عيناها على سن الرمح""
و" قلبي جريح/ تهجرني المواعيد"
و" افتحي لي أبوابك المقفلة/ تهجرني قبلة على شفتيها"
و" روحي مبللة بالخيبات/ انكرتني قوافل عينيها"
" قلبي ملفع بحبها/ العذاب أنت"
وهذا تتشكل جدلية" الأنا" و" الآخر" على أنها رواية سيرية لتعالق انساني بين شخصين، أنكرهما الحب، ورحب بهما الفراق، ويمكن تعريف«الأنا» حسب المعجم العربي بأنه ضمير متكلم قائم بذاته ولذاته، ولا ينازعه، أو يشاركه في ذاتيته وبصفته آخر، فهو مستقل عن غيره، وان كان منتجاً له وناتجاً عن علاقته به، والأنا في هذه الحالة، متقلص في مساحته، مسكون بنزعته الفردية، وقابع في مكانه وزمانه، ولكنه متوسّع في علاقته بالضمائر الأخرى و بها، حركة وسكوناً.
ونقرأ في قصيدة(ما زلت أقبل ثرى خطاها):
تجيئني اخر الليل ،تمسكني من ياقتي ،وتأخذني الى بساتين حزنها ،وتروي لي ما تساقط من اوجاعها على قميصي،وتظل تحكي قصتها مع الفراشات التي تعرش فوق نافذتها،وأنا مستسلم لعينيها الناعستين ،الغارقتين في الذكريات،بانتباه شديد،كي لا اشوش عليها متعة السرد الجميل وهو يخرج من فمها كقبلة ،ويرتمي على شفاهي دمعة أخيرة لست انصت لك.
وواضح بروز مؤثرات(الاخر) في:
(تجيئني / تمسكني / وتأخذني / تروي لي/ وتظل تحكي قصتها) بينما تقابلها (الأنا) في جدلية الحوار الساخن(وأنا مستسلم لعينيها الناعستين / كي لا اشوش عليها / أنا انصت لروحي/ اقول لها احبك) وتبرز(الأنا)المضخمة في مواضع كثيرة من القصيدة وبشكل لافت للنظر،بحيث يمكن تغييب الاصوات الاخرى في القصيدة تحت(سلطة الأنا الشاعرة).
لااجد مبررا في الخوض في المزيد من(أنات)أو(أنوات) الشاعر عبد الجبار الجبوريـــــــ كما يحلو للناقد أ.د. محمد صابر عبيد ان يسميها ـــــــــ ،فلاشك ان هذا العدد الكبير من متعلقات "أنا الجبوري" ، يصعب إحصاؤها في شعره ، ونقصد متعلقات الأنا من( فعل واسم ومصدر واضافة وغيرها) وهذا عدد كبير نسبة لشاعر مبدع يعرف تأثير ( الأنا) وخطورتها على النص الشعري اذا لم يتم استعمالها استعمالا ابداعيا خاصا، لكن الشاعر ابدع فعلا في استخدامها استخداما فنيا راقيا.
ففي شعرية الخطاب يبدو الأنا كامنا في سياقات علائقيّة بالآخر(الضمير)، مثل ما يظهر الآخر(الضمير) في علاقات سياقيّة مع الأنا في الخطاب ذاته. والأنا، هنا، يقوم بدور محوري متحفز، بكونه ذاتاً مركزية، يتحدد بعده الجغرافي، في أضيق حالاته، فالأنا هي مركز الهوية الواعية، في حين أن الذات هي الشخصية الكلية بجوانبها الشعورية واللاشعورية كافة، وتحتوي على «الأنا» التي هي دائرة صغرى في الدائرة الكبرى (الذات)؛ فالذات كلٌّ ومركزٌّ في آن، تتحدَّد في ضوء توقها الدائم إلى الآخر وفق ليفيناس،وقد نقرأ الذات من وجهة نظر سيميائية، إذ إن «كل ذات تجد نفسها في موضع تساؤل، لأنها تفتح ثغرة داخل الدال أينما تموضع» والذاتَ السيميائية هي : «عندما توضع الذات السيميائية في الخطاب، تتّبع مسارا يمكن تشبيهه بمسار الذات المتكلمة في التحليل النفسي».إن العالم، وبالتالي الإنسان، لا يمكن أن يكونا إلا إذا أُوِّلا بواسطة العلامات، فبحسب العالم الأميركي «بيرس»، فإن العالم بما يحويه من أشياء وكائنات، هو عبارة عن منظومة سيميائية، كما أن الإنسان بوصفه الكائن الوحيد الذي ينتج العلاقات ويكتشفها ويتداولها وينقلها إلى غيره، يمكن عدّه العلامة الكبرى، وهذه العلاقات والعلامات هي التي تجعل من الإنسان إنسانا، أي تصنع هويته الإنسانية والثقافية، وتجعله متميزا عن الكائنات والموضوعات الأخرى، ونقرأ في قصيدة" وجع الكلام":
انا وجع الكلام، صوته المبحوح في ذاكرتي، وأنا شيخ الكلام، الون ايامي بأزاهير العناق، واترك الدمعة الاولى تضيء براري الشوق الى عينيها، فهل يشيخ الكلام، على عتبة الحروف، وييبس المطر تحت نافذة الغيم، هنا يشيخ كل شيء، شعر قلبي، وشغاف دمعتي، وليل غربتي، ومطر احلامي، وسنين لوعتي، والتياع غرامي، كلنا نشيخ، الا قبلة حرى طلت على شفتي من شفتيها، تلك هي العشبة التي تزهر وجعا مدى العمر ولا تموت.
في الختام يجدر بنا التساؤل، هل النص الأنوي، هو جحود لدور ( الأنا الاخر) و( الآخر) في بناء القصيدة، وهل صوت ( الأنا) عندما يرتفع على بقية اصوات الخطاب، يضعف من امكانية القصيدة ان تتحول من نص ذاتي الى نص عام مشترك، وهل بإمكان ( الذات) ان تقود سفينة القصيدة بآمان، نحو (قوة ابداع) تدفعها من المحلية الى العالمية، ام ستجنح بها نحو هاوية المفاجآت؟.
لقد اجابت قصيدة الشاعر عبد الجبار الجبوري خير اجابة على هذه الأسئلة، عندما اثبتت أن بامكان النص الأنوي، ان يؤسس نصوص شعرية مائزة رائية، لها قوة ابداع تؤهلها فعلا الى الابحار في لجج عارمة، وتتجاوزها بسلام باتجاه مرافىء الابداع.