إبحار في أرخبيلات الجواهري
يحيى الاسكندراني
هو عنوان محاضرة ألقاها الأديب والمفكر عبد الحسين شعبان في مكتبة الإسكندرية العريقة، والتي تعدّ صرحًا ثقافيًا عالميًا، تناول فيه علاقته بالجواهري كتابةً ونقدًا، وذلك من وحي كتاب "جواهر الجواهري"، كما سلّط الضوء على علاقة الجواهري بمصر في عنوان فرعي هو "مصر التي في خاطر الجواهري".
وكان د. أ. أحمد عبد الله زايد مدير مكتبة الإسكندرية قد قدّم دكتور شعبان بقوله: "إنه أستاذنا الكبير ونحن نحتفي معه بجواهر الجواهري، وسيحدثنا عن سيرته ومسيرته وعلاقته بمصر.
ثم ألقى الشاعر دكتور علي المسعودي كلمة باسم دار سعاد الصباح للثقافة والنشر، أشار فيها إلى أن الدار تعتز بإصدار هذا العمل الموسوعي والذي يمثّل شاعرًا استثنائيًا، فضلا عن أن كاتبه شخصية استثنائية معتدلة ومتسامحة، فهو مفكّر وناقد وأديب، مثقف وسياسي وقانوني، طالما وقف إلى جانب المظلومين والمضطهدين.
وكانت الشاعرة المبدعة دكتورة سعاد الصباح قد وجهّت رسالة إلى الندوة التي نظمتها مكتبة الإسكندرية احتفاءً بجواهر الجواهري، مشيرةً إلى أنها المهد الثقافي لها، وهي تحفظ ذاكرة الأمة وتمثّل دروسًا في التاريخ وأفقًا للمستقبل.
وكان الرئيس علي ناصر محمد قد حضر المحاضرة، وقدّم مداخلةً أشار فيها إلى علاقته بالجواهري من براغ إلى عدن إلى دمشق، كما ذكّر بقصيدة كان الجواهري قد كتبها تحيةً إلى عدن يقول فيها:
مِنْ مَوْطِنِ الثّلْجِ زَحّافاً إلى عَدَنِ
خَبّتْ بِيَ الرَّيحُ في مُهْرٍ بِلا رَسَنِ
كَأْسِي عَلَى صَهْوَةٍ مِنْهُ يُصَفِّقُها
مَا قَيّضَ الله لِي مِنْ خَلْقِهِ الحَسَنِ
ثم قدّم وزير خارجية ليبيا السابر د. محمد عبد الهادي الدايري مداخلةً أشاد فيها بهذا الجهد الكبير الذي قدّمه المثقف الموسوعي عبد الحسين شعبان، وأثنى على دوره في نشر قيم السلام والتسامح، وتحدّث بعد ذلك عن المثقفين والشعراء المصريين والعرب الذين حضروا الندوة، بالإضافة إلى إحدى الشخصيات الكردية المهتمة بالشاعر الكبير الجواهري.
جدير بالذكر أن محاضرنا سبق له أن ألقى عدّة محاضرات خلال ربع القرن الماضي عن الجواهري وفي مصر بالذات، فقبل أكثر من عقدين من الزمن ضيّفه أتليه القاهرة وقدّمه إلى الجمهور الاستاذ مدحت الجيار، وفي 28 آب/ أغسطس 2008 ضيّفه اتحاد كتب مصر بالمسرح الصغير بالأوبرا وقدّمه الأستاذ محمد السلماوي. وفي العام الماضي نظم اتحاد إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية احتفالًا في قاهرة المعز وأرض الكنانة (1 أيلول/ سبتمبر 2024) بمقر منظمة التضامن الأفروآسيوي، وقدّمه الأستاذ أحمد المسلّماني بمناسبة صدور كتابه "جواهر الجواهري"، كما منحه الاتحاد وسام التميّز.
توقف المحاضر عند شعرية وشاعرية الجواهري، والأولى تعني التكنيك الشعري وبحور الشعر وأغراضه والشواهد الشعرية والانفتاح على اللغة، في حين أن الثانية تعني روح الشعر، أي الإحساس الرفيع الذي يلامس الشعر ويعبّر عن جوهره، بما له من جمال وحساسية.
وتناول شعبان منجزه الجديد وما يميّزه عمّا كتبه سابقًا، سواء مختارات كتابه "الجواهر - في العيون من أشعاره" أو كتابه "الجواهري – جدل الشعر والحياة"، بما احتوت هذه المختارات من إضاءات وإضافات وتدقيقات وتصحيحات، وكل ذلك من خلال علاقته الوطيدة بالجواهري.
وخصّص المحاضر جزءًا من محاضرات لعلاقة الجواهري بمصر، التي امتدت إلى أكثر من 60 عامًا، وهو من أطلق على الشاعر أحمد شوقي لقب "شكسبير العرب"، وذلك في قصيدة نظمها العام 1932.
كم التقى مع عميد الأدب العربي طه حسين في دمشق بمناسبة الاحتفال بأبو العلاء المعري "رهين المحبسين"، وذلك في العام 1944، حيث نظم "تاج القصائد" على حدّ تعبيره، والتي يقول في مطلعها:
قِفْ بالمعَرَّةِ وامسَحْ خَدَّها التَّرِبا
واستَوحِ مَنْ طَوَّقَ الدُّنيا بما وَهَبا
إلى أن يصل إلى البيت الآتي:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
بأنَّ ألفَ مسيحٍ دونَها صُلِبا
فطلب منه طه حسين إضافة ألف أخرى، فأعاده الجواهري مرة واثنتان ليصبح البيت على الصورة التالية:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
بأنَّ ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا
ثم عاد الجواهري لقراءة البيت مجددًا، فأجرى عليه تعديلات ليصبح كما يأتي:
لِثورةِ الفكرِ تأريخٌ يحدّثُنا
كم ألفَ ألف مسيحٍ دونَها صُلِبا
فما كان من طه حسين إلّا أن يقول للجواهري هذا بقية شعر العرب، كما خاطب الجواهري طه حسين "أنت معري زماننا".
وكتب الجواهري قصيدة إلى طه حسين مؤلفه من 24 بيتًا ودعاه طه حسين يوم أصبح وزيرًا للمعارف في مصر، فكتب الجواهري قصيدةً مهداة إلى الشعب المصري (شباط / فبراير 1951) يقول فيها:
يا مصر ُ تستبقُ الدهورُ وتعثـُرُ
والنيلُ يزخرُ والمِسلـّة ُ تـُزهرُ
وبَنوك ِ والتاريخُ في قصبيهـِما
يتسابقان ِ فـيُصهرون ويُصهرُ
 
 وكتب الجواهري قصيدةً تضامنًا مع مقاومة بورسعيد وضد العدوان الثلاثي، كما كتب قصيدة عصماء عشية عدوان 5 حزيران / يونيو 1967 بعنوان الخطوب الخلّاقة"، يقول في مطلعها:
دعِ الطَّـوارِقَ كالأَتُّونِ تَحتَدِمُ... وخَلِّهـا كـَحَبيكِ النَّسجِ تَلتَحمُ
وخـذْ مَكانَكَ مِنها غيـرَ مُـكـتَـرِثٍ... أَهوى بكَ الموجُ أوْ عَلَّتْ بكَ القِممُ
أما عن الجواهري وعبد الناصر، فرغم بعض الملابسات والزعل والعتب بسبب تأييد القاهرة لانقلاب 8 شباط/ فبراير 1963، وما كتبه الجواهري من قصيدة إلى أمين الأعور وعنوانها "أمين لا تغضب"، والتي كما يقول المحاضر قد ندم عليها ومطلعها:
أَمينُ خلِّ الدَّمَ يَنزِفْ دمًا ... ودعْ ضِرامًا يَنبثِقْ عنْ ضِرامْ
حتى جاء اليوم الذي ظلّ الجواهري ينتظره فكتب ثناءً خالصًا ومنزّهًا من الغرض مخاطبّا جمال عبد الناصر:
أُثني عليكَ، وما الثَّناءُ عبادةٌ ... كمْ أَفسدَ المتعبِّدونَ ثناءَ
ويقول المحاضر أنه سأل الجواهري: لو لم تُقل هذه القصيدة بحق عبد الناصر، فمن يستحقها؟ فكان جواب الجواهري: كنت أتمنى أن يقولها شاعر بحقي... نعم أتمنى ذلك، وحسبما ينقل دكتور شعبان أن الجواهري كان متأثرًا وهو يروي ذلك.
في قصيدة عبد الناصر يحللّ الجواهري شخصيته بما فيها من عناصر قوة وشجاعة وعدل، دون نسيان الكوابح التي اعترضت طريقه، إضافة إلى أخطائه، فيقول:
لا يَعصِمُ المجدُ الرِّجالَ، وإنَّما ... كان العظيمُ المجدَ والأخطاءَ
وإذا النُّفوس ترفَّعت لم تفتكرْ ... لا الانتقاص بها ولا الاطراءَ
لا يأبهُ البحرُ الخضمُّ روافداً ... يلقى، ولا زَبَداً يَطير غُثاء
لم يخلُ غابٌ لم يحاسَبْ عنده ... أسدٌ، بما يأتي صباحَ مساءَ
تحصى عليه العاثرات، وحسبه ... ما فات من وَثَباته الإحصاءَ
واختتم المحاضر بالقول: لقد كان عبد الناصر حالمًا كبيرًا، وعاش لأحلامه وضحّى من أجلها، على الرغم من التحديات التي واجهها لإقامة مجتمع الكفاية والعدل، وهو ما يخاطبه الجواهري بقول:
أسفًا عليكَ، فلا الفقيرَ كفيْتَهُ ... بُؤسًا، ولا طُلتَ الغَنِيَّ كِفاءَ
وكانت آخر زيارة للجواهري إلى مصر في العام 1992 بمناسبة مرور 100 عام على صدور مجلّة الهلال. وكم ظلّ يرددّ: كنت أتمنّى أن أعيش في مصر.