الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
الداوودي.. أيام الوجع والنجاح

بواسطة azzaman

الداوودي.. أيام الوجع والنجاح

أحمد عبد المجيد

 

غدر الانفلات الأمني الذي أعقب نيسان2003 بأحبة وأبرياء كثيرين، واذا تركنا للعيون أن تذرف دموعاًُ عليهم، فانها ستصاب بالجفاف والأرق لتزايد أعدادهم وهول الفواجع التي ارتبطت بمصيرهم.

ويوم بلغنا اغتيال نصر الله الداوودي (أبو شيلان) نزل الخبر كالصاعقة فوق الرؤوس. كانت الخسارة فادحة لا تعوض بفقده وذبول عقود حياته، مع رهط لا ينسى من زملائه في جريدة (العراق) ارتبطت أسماؤهم باسمه وتكللت جهودهم الصحفية بالحقبة التي تبوأ خلالها نصر الله الداوودي رئاسة تحرير جريدة العراق. كانت مهمته شاقة كمجمل حياته المهنية، التي كافح في سنواتها كفاحاً أخلاقياً وإنسانياً، فضلا عن جهده الصحفي، ذلك أن التحدي الحقيقي في مهنة الصحافة يكمن في تحويل إيمان الأشخاص بنا إلى ثقة بالنفس وقد تطلب ذلك سهراً وعرقاً وتعباً وانشغالاً ونزاعاً صامتاً.

كان أبو شيلان من أكثر رؤساء التحرير الذين عرفتهم تصالحاً مع ذاته، وتلك من أرقى أنواع رفاهية الروح أن يكون انفراد الشخص بنفسه هو متعته الحقيقية، فمن لا يأنس بذاته لا يأنس بشيء آخر، على حد قول جلال الدين الرومي، ولذلك غالبًا ما كنت أراه صامتًا قليل الكلام، منهمكا في تسويات العمل والمتابعة. كان لا يكف عن ملاحقة الصفحات منذ مسوداتها الأولى وتنفيذها ومنتجتها، حتى طبعها وتوزيعها ضمن المحتوى العام الذي تتضمنه نسخ الجريدة. وبفضله قليلاً ما حدثت (انتكاسات) فيها أو أخطاء نعزوها إلى (المطبعة)، فيما هي إما نتاج الإهمال أو السهو أو قلة الخبرة أو القصد بالوقيعة أحياناً أو نادراً. وأقول نادراً لأني أعرف أن أبا شيلان لا يصنع عدواً، بل يدأب على استقطاب أصدقاء، لكنه مع ذلك، هو كأي إعلامي ناجح محاط بالحاسدين. نعم كان بعضهم يستكثر عليه المنصب بكل ما يحفل به من تحديات وخطوب وقلق يصل إلى قطع الرأس وليس إلى الاقصاء حسب. كان عالمنا فظاً وحشياً تغذيه وترضيه المظاهر، وكان أبو شيلان يتمظهر كما هو في العمق.

وأسجل للراحل العزيز إدارته التفاعلية للعمل الصحفي، فقد رأيت مكتبه متواضعاً بلا سكرتير ومحتشدًا بملفات المقالات وبقية الفنون الصحفية. كما رأيته أكثر رؤساء التحرير ارتباطا بالطواقم التي تتوزع بين الأقسام. فهو محب لعامل المونتاج وصديق للسكرتير التحرير مثلما هو نصير إلى محرر المنوعات. كانت مائدته الصحفية تضمهم جميعًا بما يشعرهم أنهم شركاء معه في النجاح. وفعلاً نجحت (العراق) بفضل دأبه ونشاطه وسعة إدراكه لفن الإدارة والاقتصاد الصحفي. كنا تغبط العاملين في (العراق) يوم يتم توزيع الأرباح بينهم. كانت الجريدة أكثر الصحف قدرة على تعظيم الموارد واستقطاب الإعلانات، وهي موارد لا غنى عنها بالنسبة لمؤسسة تتمتع بشبه استقلال.

كان أبو شيلان شديد التواضع بنفسه، ولذلك تحلى بالصدق وحظي بالثقة في بيئة مليئة بالشكوك ومحاطة بالمحاذير. لقد عبر بحارها في أشد الظروف قسوة أيام الحرب، لكنه اعتلى إلى السماء بعدها في أشد الظروف وجعاً واستنزافاً في تاريخ البلاد. كان استشهاده نكسة أخلاقية بالنسبة لمواطن خدم المجتمع بلا كلل، ولم يحدث مرة واحدة، أن تقاعس أو تلكأ كان شعلة إيمان وقد انطفأت.يوم حضرت مجلس عزاء عقيلة زميلنا موحان الظاهر في بغداد، الذي غادرنا الى ربه مغدوراً أيضًا كصديقه الداوودي، استرجعت صور أكرم علي حسين و مال الله فرج و عادل الشوية وأحمد شبيب (أبو صارم) ونجم المفرجي وصبيح عبد المجيد وعدنان الجبوري. فالذكرى التي اعتلت ذاكرتي كصديق غريب، غالبا ما تأخذني، بعيدًا من دون أن أدرك ذلك. كانوا الحاضرن المداومون في مكتبه، وكان يتعامل معهم كأخوة، وغالبًا ما يشعرهم أنهم رؤساء التحرير، وهو أصغر العناوين في اقسام الجريدة. كان مشغولاً بالعمل، وقد أحب زملائه بعمق ونقاء، وكان أكثر ما يشقيه ويؤرّقه، سوء الفهم أو جنوح النية، ولذلك تحول قلبه إلى بحر صاف وروحه إلى شاشة نقية، تترجم الأحوال وتكشف عمق المشاكل إن اقتحمت المكان. قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام (ثلاثة يوجبن المحبة .. حسن الخلق وحسن الرفقة والتواضع)، وقد جمع أبو شيلان هذه الصفات الثلاث، قبل أن ينطفئ، ويبدوا العالم، كما لو أن نوره قد انطفأ.

فصل من كتاب صدر حديثاً

 

 

 


مشاهدات 54
الكاتب أحمد عبد المجيد
أضيف 2025/11/01 - 1:17 AM
آخر تحديث 2025/11/01 - 7:06 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 193 الشهر 193 الكلي 12361696
الوقت الآن
السبت 2025/11/1 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير