إلهام الفلسفة في الشعر العربي : مدخل للتفكير العميق
سناء الحافي
من منطلق البحث وممارسة فِعل التساؤل واستكشاف العالم، حيث تتداخل أسرار الحياة والكون بكل تفاصيله ، للكشف عن الحقيقة من خلال "تأسيس الموجود بما هو موجود" ، حيث تتّحد الفلسفة التي عدّها نيتشه "الحقيقة الماهوية للعالم"، بصفتها فكراً تتداخل فيه عناصر الأدب ، وتجلّي الروح في البحث عن حقيقة الأشياء، مع الشعر الذي يحمل الفلسفة في أساسه، والذي يتميز بقدرته الفريدة على تخييل الكلمات وصياغة الأفكار بشكل فني وغير تقليدي. أسئلة كثيرة تتأرجح بشكل مضطرد بين الزمان والمكان والفكر السائد في العصور المختلفة، حيث البدء بأن الشعور بالدهشة ومن ثُمَ التأمل هو باب الفلسفة الأول، ووصف الشعور بحروف مرهفة وتعابير جمالية هو الشعر، وقد قيل "إن موت الفلسفة يُلازمه موت الشعر" ؟ فهل يموت الشعر بعد أن اختفت ممارسة الفلسفة في حياتنا؟ وهل تحتوي الفلسفة على عناصر شعرية حيّة ؟ وكيف يتخطى أو يتآلف الشاعر مع الفيلسوف بداخله ؟ وهل هناك تقديم للفلسفة أم الشعر؟
بالتأكيد، لا يمكننا إنكار الارتباط الوثيق بين الشعر والفلسفة، حيث يترابطا منذ وعي الإنسان القديم بالشعر ومُحاولته ترتيبه وتعبيره عنه بأفكار فلسفية، اذ يتشابها في قدرتهما على إبراز التناقضات والمفارقات في المجتمعات، كما يصعب فهم دراسة الشعر لدى الفلاسفة العرب إلا من خلال الجهود التي بذلها الفلاسفة اليونانيون القدماء، فالثقافة الفلسفية العربية مدينة للثقافة اليونانية، التي تركت أثراً عميقاً في الشعر والفكر، ونجد أن صاحب الإلياذة هوميروس كتب فلسفته بحروف من الشعر، وتبلغ أوج الحميمية مع شاعر الفلاسفة وفيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري.
كان القالب الشعري عند الشعراء العرب منذ القدم يعتمد على السؤال الفلسفي في قصائدهم بطريقة تُميّزهم عن غيرهم من الشعراء، حيث استطاعوا بحنكتهم وفطنتهم أن يتناولوا مواضيع عميقة ومعقدة من خلالها ، مثل الحياة والموت، الحب والهوية، الوجود والغيب، وغيرها من الأسئلة الفلسفية المهمة، وقدموا أفكارًا وتأملات تجعل القارئ يتساءل ويفكر في الأمور الأساسية للحياة، فقد كانت قصائدهم مليئة بالرموز والمفردات الغنية، وكانت لديهم قدرة فائقة على استخدام اللغة بشكل عميق وجذاب، اذ تركوا بصماتهم في عالم الشعر وأثروا تاريخ الأدب العربي بفضل قدرتهم على استكشاف العوالم الداخلية والخارجية للإنسان بشكل استثنائي، من خلال الأسئلة الإشكالية التي تسعى للكشف عن أسرار الوجود ومعاني الحقيقة.
فالحكمة الفلسفية في الشعر العربي كانت توجُّهاً فنياً يُظهر الفلسفة والحكمة من خلال الألفاظ والأفكار المعبرة في القصائد ،حيث يتبنّى الشعراء العرب هذا التوجّه لنقل المعاني العميقة والفكر المترابط بشكل متقن وبليغ، يحمل في طياته الحكمة الفلسفية كإرثٍ ثقافيٍ غنيٍ، يعكس حصيلة تفكيرهم وتجربتهم.
حيث يعتبر الشعر العربي من أقدم وأكثر أشكال التعبير الأدبي التي تعبر عن الحكمة والفلسفة، بلغة الجمال والحقائق الروحية والأخلاقية، من خلال الأسلوب البسيط والمباشر للتعبير عن فكرة الشاعر الفلسفية، أو الصور والرموز لإظهار الفكرة بشكل مجازي وجمالي، لإلهام وإثراء العقل والروح، وبتعزيز التفكير والتأمل في الجوانب العميقة للحياة والإنسانية.
وينطوي التصور الفلسفي على حقيقة الاعتقاد بأن الشعراء ليسوا مجرد كتّاب للكلمات، بل هم رؤوس فكرية يتوغلون في أغوار الحياة ويلتقطون الجمال والحقائق والتجارب الإنسانية، من خلال التعامل بجدية مع التساؤلات الفلسفية المعقدة والسعي لنقلها بأسلوب راقٍ ومتوازن بين الشعر والفلسفة،وبفضل هذه القدرة، أصبح التصور الفلسفي للشعراء العرب يمثل مصدر إلهام للعديد من الفلاسفة والمفكرين والمثقفين الذين يسعون لفهم العالم وتجربة الحياة بعمق أكبر.
اذ تعد المُمارسة الفلسفية في الشعر جزءًا من التحليل الحادّ للتفاعل المعقّد بين الفلسفة والأدب، حيث تتمثل الفلسفة في البحث العميق والتأمل في القضايا الأساسية للوجود البشري والحقائق الأخلاقية والمعنى العميق للحياة، ويكمن الهدف الرئيسي للشعر في تقديم رؤية للعالم والإنسان وتفسير تجاربهما بشكل جمالي، وبالتالي فإن دمج الشعر والفلسفة يعتبر تحديًا عقليًا وروحيًا، حيث يقوم الشاعر في ذلك بإيصال رؤيته الفلسفية والروحية من خلال الأبيات الشعرية التي تعبّر عن بعدها الفلسفي، وفهم المواضيع الفلسفية وتشكيل التفكير الفلسفي، من خلال الأساليب والحكايات المتنوعة، التي تعكس الرؤية الفلسفية والقضايا المجردة التي تصول وتجول في ذهن الإنسان.
فكتابة الشعر وممارسة الفعل الفلسفي يمثلان جانبين مهمين في التعبير الثقافي والفني، من خلال تحفيز التفكير وإلهام القارئ لاكتشاف أبعاد جديدة للعالم والذات، وتوضيح الحقائق المعقدة والروحانية والتعبيرعن الواقع بطرق تتجاوز المألوف واستخدام أساليب مبتكرة وعميقة للتواصل.
ويعتقد البعض أن الشاعر يُصبح فيلسوفًا عندما يتعمق في تجربته الشخصية ويبدأ في استكشاف الأعماق الروحية والفلسفية للحياة، فإذا تمكن الشاعر من إثراء المشاعر والأفكار وصياغتها بأسلوب فائق، فإنه يصبح فيلسوفًا يمكن أن يؤثر في العقول والقلوب ويُلهم التفكير العميق لدى الآخرين، وبالتالي، فإن الشاعر الفيلسوف يعمل على توصيل رسالته الفلسفية من خلال روحية الشعر بأسلوب عاطفي وعميق يؤثر في الناس ويعكس الوجود الإنساني بكل تعقيداته.
وعندما يتم تطبيق أدوات الفلسفة في فهم الشعر العربي، يمكن للقارئ فهم رموز الشعر ومغزاه العميق، واكتشاف الرؤية الشخصية للشاعر، كما يمكن أن تساعد الفلسفة في تحليل شكل وهيكل القصائد، والتعرف على التقنيات الشعرية المستخدمة، والتفاعل مع القصيدة من منظور فلسفي.
ويعتبر النقد الفلسفي من أهم الأنواع النقدية في الشعر العربي، اذ يقوم بتحليل وتقييم الأعمال الشعرية من خلال استخدام المنهج الفلسفي في فهمها وتفسيرها،ويهدف إلى فهم الرسالة الفلسفية التي يحملها هذا الجنس الأدبي، وكشف طبيعة الوجود والإنسانية التي يعكسها، كما يسعى لتحليل القيم الجمالية والمعنى العميق للنص، ويناقش القضايا الفلسفية المثارة فيه، وبالتالي، يعتبر النقد الفلسفي أداة قوية في إثراء فهمنا للأدب وفنونه، حيث يساهم في توسيع آفاقنا الفكرية وتفعيل تفكيرنا النقدي.
بالإضافة إلى ذلك، تنظر الفلسفة إلى الشعر العربي بعين التحليل المنطقي والنقدي، اذ يساهم تطبيق المنهج الفلسفي في تقوية الفهم النقدي والتحليلي للشعر، وتطوير المنطق والاستدلال في التحليل الأدبي، ومن خلال هذا الأسلوب، يمكن للفلسفة أن تُسهم في إغناء الفهم العميق للنص الشعري وتوسيع المدارك الفكرية للمثقفين والقراء، وتعزز وتعمق فهم وتحليل الشعر العربي، وتفتح آفاقًا جديدة للاستكشاف والاستنتاج، وتُساعد في توسيع الرؤية الفكرية والثقافية، من خلال توفير إطار فريد لتسهيل فهم المدلولات العميقة والقيم الثقافية والتجربة الإنسانية. وبذلك، تصبح الفلسفة عنصرًا أساسيًا للنظرة العميقة للشعر بشكلٍ شافِ وشمولي.
وبدوره، يعزّز الشعر العربي الفلسفة بطريقة تكاملية، بتشكيل الأفكار بجاذبية، تُحفز القارئ على التفكير العميق والانخراط في الحوار الفلسفي مع ذاته، وعليه، يعمل الشعر كوسيلة لاستعادة وإحياء القيم والحكم الأخلاقية والفلسفية، ويساهم في تنمية ثقافة التفكير والنقد لدى القراء.
بهذا الشكل، يمكن القول إن الشعر العربي والفلسفة يعملان معًا كمدخل للتفكير العميق، حيث يتناولان مواضيع الوجود والحياة والإنسان من وجهات نظر فلسفية جديدة ومبتكرة، تُتيح للقارئ فرصة للتفكير بعمق في أسئلة الحياة والمعنى والمصير، وتُساهم في توسيع آفاق المعرفة والتفاعل مع الفكر الإنساني.
فالفلاسفة يسعون إلى فهم طبيعة الوجود وغايات الحياة، في حين يسعى الشعراء إلى تجسيد هذا الفهم في قصائدهم بأسلوب شعري هادف، ومن خلال هذا التعاون بين الفلاسفة والشعراء، يتكون تفسير شامل يعزز الفهم العميق والتأمل في مختلف جوانب الوجود البشري.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، جذبت قضية الحب اهتمام الفلاسفة على مرّ العصور، حيث تناولوا دراسة هذا الشعور القويّ والغامض بطرق مختلفة، حيث قدّموا تعريفات وتحليلات للحب، واستكشفوا أبعاده الأخلاقية والفلسفية والاجتماعية، اذ يرى بعض الفلاسفة "الحب" على أنه قوة تدفع الإنسان نحو التلاقي والتواصل مع الآخرين، وتربطه بالعالم بشكل عميق، باعتباره شعور قادر على إثراء حياتنا ومنحها معنى وإشراقة، وحوار ذاتي عميق حول الحياة وترابط الأنا و الآخر ومعنى السعادة.
وحظيت العواطف باهتمام كبير في الفلسفة، باعتبارها من العناصر المهمة التي تؤثر في تصرفات الإنسان وتشكل واحدة من جوانبه الأساسية، وهي تجربة شعورية تنشأ نتيجة تفاعل الفرد مع المحيط وتجربة الحياة، حيث يتعامل الفلاسفة مع العواطف بشكل فلسفي ويتساءلون عن طبيعتها ومصدرها وقيمتها وتأثيرها في اتخاذ القرارات والسلوك.
وأخيراً وليس آخراً، إن الشعر العربي ليس مجرد تعبير عاطفي وجمالي، بل يحمل في طياته طبقات عميقة من الفلسفة والفكر، إذ يعتبر واحدًا من أقدم وأغنى تعابير الثقافة العربية و جزء مهم في التراث العربي، والذي يحتوي على تجليات فلسفية تتناول قضايا الوجود، الحياة، الحب، الفقر والغنى، القوة والضعف، الحرية والقيود، وغيرها من الأفكار الفلسفية المهمة.