الإنتخابات العراقية.. حرية التصويت في قبضة السلطة والنفوذ
طارق جوهر سارمه مي
أكد الفلاسفة السياسيون، من لوك وروسو إلى ميل وتوكفيل، أن حرية التصويت وحق الناخب في الاختيار المستقل هي حجر الزاوية لأي نظام ديمقراطي. استخدام المال السياسي ومؤسسات الدولة للضغط أو تهديد للناخبين أو للتأثير في تصويتهم يقلل من شرعية الانتخابات.
وفي العراق ما إن تقترب الانتخابات، حتى تعود بنا الذاكرة الى الانتهاكات المتكررة التي تحصل في كل دورة انتخابية. فبدل أن تكون الانتخابات منبرا حرا للتنافس، تتحول إلى وسيلة للضغط والإكراه، ومنذ سنوات يحاول اصحاب النفوذ من السلطة والجماعات المسلحة اُجبار الموظفين في مؤسسات الدولة وقطاع الخاص على شراء ذمم الناخبين بشتى الوسائل ويتوقع المراقبين ان الدعاية الانتخابية لهذه الدورة قد تشهد ارتفاع نسب الانتهاكات قانونية قبل ايام اعلن شبكة شمس لمراقبة الانتخابات أن عمليات بيع وشراء الأصوات في العراق «منتشرة على نطاق واسع»، مشيرة إلى اعتقال نحو 100 شخص حتى الآن على خلفية هذه الممارسات.
ورغم تأكيد المفوضية على أنه لا يمكن لأحد التصويت نيابة عن شخص آخر،الا ان الخبراء في مجال مراقية الانتخابات يؤكدون:» ان الجهة التي تشتري الأصوات تعلم ما إذا كان قد تم التصويت لصالحها أم لا، من خلال عدة خطوات مثل الحصول على صورة من بطاقة الناخب ومعرفة المحطة التي من المقرر أن يصوّت فيها». وكأنّ صوتهم مِلْكٌ للأحزاب التي تُمسك بمفاصل السلطة. كما يمتد الضغط ليشمل أفراد القوات الأمنية من خلال التصويت الخاص، حيث تُمارس عليهم ضغوط سياسية مباشرة أو غير مباشرة لتوجيه أصواتهم لصالح مرسشحين وقوائم معينة. وهو ما يستدعي الى إعادة النظر في نظام التصويت الخاص، وإلغاؤه او تعديله بصيغته الحالية عبر التصويت الإلكتروني المنفصل، ضمانًا للسرية ومنعًا لأي استغلال سياسي للمؤسسة الأمنية.
مبادئ الحرية
إنّ ما يجري في سوق الانتخابات العراقية من ابتزازٍ سياسي مفضوح يشكّل إهانةً لكرامة الناخب وتعدّيًا على أبسط مبادئ الحرية، إذ تسعى بعض القوى إلى ضمان الأصوات عبر التهديد بالوظيفة أو الإغراء المالي. بل إنّ شراء بطاقات الناخبين أصبح سلوكًا علنيًا في بعض المناطق، يُمارس بلا خشيةٍ من القانون أو المفوضية، في ظلّ غياب الردع الحقيقي. رغم ان قانون الانتخابي النافذ يتكون من: قانون رقم 4 لسنة 2023 )قانون التعديل الثالث لقانون انتخاب مجلس النواب ) ومجالس المحافظات رقم 12 لسنة 2018 وفقرات (10-11-17-18) من نظام السلوك الانتخابي ونظام الشكاوى والطعون رقم 10 لسنة 2025 الصادر عن المفوضية العليا المستقلة للانتخابات يمنعان استخدام النفوذ الوظيفي في مؤسسات الدولة أو المال العام في الدعاية الانتخابية، ويعتبران ممارسة الضغط أو الترهيب أو الإغراء المالي مخالفةً جسيمة تستوجب استبعاد المرشح أو الكيان السياسي من المنافسة. ومع ذلك، القوى المتنفذة في السلطة لاتعير اهتماما بالمحتوى القانوني لعدم وجود الية فعالة للردع والمحاسبة. ولتجاوز هذه الانتهاكات يجب تشديد العقوبات بحيث: تُعدّ أي محاولة لممارسة الضغط على الموظفين جريمة انتخابية مكتملة الأركان، يعاقب مرتكبها بالسجن والمنع من الترشح، ويُستبعد كل كيانٍ سياسي أو مرشحٍ يثبت تورطه، حتى لو تمّ انتخابه لاحقًا.
فساد سياسي
ومن المؤسف أن يتحول صوت الناخب العراقي، الذي يفترض أن يكون أداةً للتغيير، إلى وسيلةٍ للابتزاز والمراقبة.
إنّ السكوت عن هذه الانتهاكات يعني شرعنة الفساد السياسي، ويجعل من الديمقراطية واجهةً زائفة تغطي جوهرًا سلطويًا متعفّنًا.
إنّ حماية حرية الاختيار للناخب تحتاج الى شجاعةٍ وخطوات عملية من قبل المفوضية والقضاء والإعلام والمجتمع المدني في مواجهة المتنفذين، ومحاسبة من يستغل المال العام والوظيفة للتأثير في إرادة الناخبين. فصوت المواطن ليس وثيقة ملكية لأحد، بل هو صرخة حرية يجب أن تبقى عصيّة على التهديد والشراء. مع الاسف اصبح حال الناخب العراقي كحال المواطن الذي يصفه الشاعر أحمد مطر في قصيدته الشهيرة «أنا اللص في داري»، الذي يجد نفسه غريبًا ومتهَمًا في وطنٍ استولى عليه اللصوص.
فبينما يُحاسَب الفقير والمستضعف على كل تفصيلٍ في حياته، يعيش أصحاب السلطة في مأمنٍ من المساءلة، ينهبون ويُجبرون الآخرين على الطاعة تحت شعاراتٍ وطنية زائفة. هذه الصورة الشعرية الساخرة تلخص بدقة ما يجري في الواقع الانتخابي العراقي، حيث يتحول المواطن من صاحب حقٍّ إلى موضع مراقبة واتهام، ويُسلب صوته كما سُلبت حريته. إنّ الديمقراطية ليست بوضع صناديق الاقتراع فقط، بل هي حرية وكرامة وعدالة. وحين يحرم الناخب من حق التصويت بحرية، يفقد العملية الانتخابية معناه الحقيقي، كادات للتغير والاصلاح وتتحول إلى مسرحية مكشوفة، يُصفّق فيها الناخبون لمن صادر أصواتهم باسم الوطنية والديمقراطية.