العراق بين عهدين (2-2)
مائة عامٍ على صدور الدستور العراقي
حسن الياسري
مقاربةٌ دستوريةٌ
كنَّا قد تحدثنا في القسم الأول عن النقاط المشتركة بين الدستور الأول للعراق لسنة 1925 –القانون الأساسي- ودستور 2005 الدائم، ثم تكلمنا في ثلاثة محاور رئيسةٍ تتعلق بهيكل السلطة وشكل الحكم وتوزيع الاختصاصات فيهما، وإرساء دعائم الدولة،ونظام الإدارة والفدرالية.وسنكمل الحديث عن محورين آخرين،أحدهما يتعلق بمنظومة الحقوق والحريات في هذين الدستورين والآخر يتعلق باستقلالية القضاء.
المحور الرابع: الحقوق والحريات :
أولاً : القانون الأساسي 1925:
أ-نطاقٌ محدود:
لقد خصَّص القانون الأساسي بابًا للحقوق والواجبات العامة تضمَّن نصوصًا مختصرةً وعامةً حول المساواة أمام القانون (المادة 6)، وحرية المسكن (المادة 8)، وحرية التقاضي (المادة9)، وحرية التملك (المادة10)، وحرية النشر والاجتماع (المادة 12)، وحرية الاعتقاد والشعائر الدينية (المادة 13).
ب-طابعٌ تقليدي :
1-لقد كانت هذه الحقوق ذات طابعٍ ليبراليٍّ تقليدي، بيد أنها لم تكن مفصلةً أو شاملةً، مما ترك هامشًا واسعًا للتفسير والتقييد عبر القوانين العادية التي كانت تُسن لاحقًا.
حقوق والحريات
2-كانت الحقوق والحريات تخضع في كثيرٍ من الأحيان لقوانين عادية تُقيِّدها، ولم تكن ثمة آلياتٌ قضائيةٌ قويةٌ لحمايتها.
3-غياب الضمانات الدستورية لحماية هذه الحقوق والحريات.
ثانياً : دستور 2005 :
أ-نطاقٌ واسعٌ ومفصلٌ :
1-لقد خصَّص الدستور الباب الثاني (المواد 14-46) للحقوق والحريات.وهو أكثر تفصيلاً وشمولاً من القانون الأساسي، إذ تناول حقوقاً محددةً مثل: المساواة الكاملة دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الدين (م14)، حق الأمن والحرية (م15)، حق تكافؤ الفرص (م16)،الحق في الخصوصية وعدم انتهاك حرمة المساكن (م17)، الحق في الجنسية(م18)، حق التقاضي(م19)، حق المشاركة في الشؤون العامة(م20)، حق العمل(م22)، حق الملكية (م23)،حق الضمان الصحي والاجتماعي (م30)،حقوق الأسرة والأمومة والــــــــطفولة (م29)، حق العيش في ظروفٍ بيئيةٍ سليمة (م33)، حق التعليم (م34)، الحق في الرياضة (م36)، حرية التعبير والصحافة والاجتماع والتظاهر(م38)، حرية تأسيس الجمعيات والأحزاب(م39)، حرية الفكر (م42)، حرية إدارة الأوقاف والشعائر الدينية(م43)، حرية التنقل والسفر(م44)، الحق في الكرامة وحظر جميع أشكال التعذيب النفسي والجسدي (م37)، حقوق المرأة وضمان تمثيلها في مجلس النواب (م49)،..الخ
2-تُمثِّل الحقوق والحريات في هذا الدستور قفزةً نوعيةً من حيث الكم والكيف،سواءٌ على مستوى العراق أو المنطقة، بل وعلى مستوى العالم . 3-تعدُّ هذه الحقوق والحريات أكثر حداثةً، وتتوافق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ب-ضماناتٌ أقوى:
1-لقد نظَّم الدستور ضماناتٍ إجرائيةً ومؤسَّسيةً لحماية الحقوق والحريات.
2- إنَّ الحقوق والحريات هذه غير قابلةٍ للتقييد أو الانتقاص.
3- ربط الحقوق والحريات بالمعاهدات الدولية.
4 -حماية القضاء لهذه الحقوق والحريات.
التحليل المقارن بين الدستورين بشأن الحقوق والحريات :
أولاً : من حيث طبيعة النص ومدى التفصيل:
دستور 1925 :
1-إنه دستورٌ يعلن حقوقاً.
2- إنَّ نصوصه عامةٌ ومطلقةٌ.
دستور 2005 :
1-إنَّ نصوصه مفصلةٌ وشاملةٌ.
2-التوسع في مفهوم الحقوق والحريات،إذ يمثِّل دستور 2005 قفزةً نوعيةً في مجال الحقوق والحريات من حيث الكم والكيف.فهو أكثر حداثةً ويتوافق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان.
ثانياً : من حيث آليات الحماية من التقييد:
دستور 1925: غياب الضمانات ضد التقييد :
ثمة حمايةٌ شكليةٌ ومحدودةٌ للحقوق والحريات،إذ لم يضع الدستور أيَّ قيودٍ على المشرع لتقييد الحقوق.فلقد كان بإمكان البرلمان سنّ قوانين تفرض قيودًا واسعةً على الحريات المنصوص عليها دستوريًا دون معايير دستوريةٍ واضحةٍ.
دستور 2005: ضوابط صارمةٌ للتقييد :
جوهر الحق
1-لقد وضع دستور 2005 شروطًا صارمةً لتقييد أيّ حقٍ أو حريةٍ،إذ نصت المادة (46) على أن: «لا يكون تقييد ممارسة أيٍّ من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه، على أن لا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية».
تعدُّ هذه المادة قلب الضمانات، وهي تتطلب الآتي :
أ. ضرورة وجود الأساس القانوني لأي تقييدٍ (مبدأ سيادة القانون).
ب. حظر المساس بجوهر الحق، أي ضرورة أن يكون التقييد (متناسبًا وضروريًا ولا يعطل الحق الرئيس ذاته).
2-الضمانات الدستورية :
لقد قدّم دستور 2005 ضماناتٍ إجرائيةً ومؤسَّسيةً قويةً لحماية الحقوق من خلال النص على عدم قابليتها للتقييد وحمايتها بسياج القضاء المستقل، في حين كانت الحماية في دستور 1925 أضعف وأكثر عرضةً للانتهاك عبر التشريعات العادية.فدستور 2005 يضمن حقوقاً، لا يعلنها فحسب.
ثالثاً : من حيث الرقابة على دستورية القوانين :
دستور 1925: غياب الرقابة القضائية الفعَّالة :
1-لقد كانت الرقابة على دستورية القوانين ضعيفةً أو غير مستقلةٍ،ما يعني أنَّ القانون الذي يقيِّد الحقوق-ولو كان مخالفًا للدستور- يمكن أن يستمر في التطبيق دون وجود جهةٍ قضائيةٍ فاعلةٍ تلغيه.
2-على الرغم من نصِّ الدستور على إنشاء محكمةٍ عليا،فإنَّ مهمتها الرئيسة كانت تكمن في محاكمة الوزراء وأعضاء مجلس الأمة وحكام–قضاة- محكمة التمييز المتهمين بجرائم سياسيةٍ أو بجرائم تتعلق بوظائفهم العامة،فضلاً عن البت في الأمور المتعلقة بتفسير الدستور وموافقة القوانين الأخرى لأحكامه(م81).
3-تتألف هذه المحكمة من رئيسٍ –وهو رئيس مجلس الأعيان- وثمانية أعضاءٍ ينتخبهم مجلس الأعيان،أربعةً من بين أعضائه وأربعةً من حكام محكمة التمييز أو غيرهم من كبار الحكام.
4-وبناءً على ما سلف لم تستطع المحكمة النهوض في مهمتها في ميدان الرقابة على دستورية القوانين،ولم تكن فاعلةً.
ولم يتسنَّ لها النظر إلاَّ في بضعة دعاوى دستوريةٍ لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.
دستور 2005: وجود الرقابة القضائية المستقلة والفعاَّلة :
1-لقد أنشأ الدستور المحكمة الاتحادية العليا،وهي مستقلةٌ تماماً وتتمتع بصلاحياتٍ واسعةٍ في التفسير والرقابة على دستورية القوانين.
2-إنَّ أيَّ قانونٍ يسنّه مجلس النواب ويقيِّد الحقوق يمكن الطعن فيه أمام المحكمة الاتحادية العليا،التي لها سلطة إلغائه إذا وجدته يمسُّ «جوهر الحق أو الحرية».
رابعاً : من حيث الارتباط بالمواثيق الدولية :
دستور 1925: انغلاقٌ وطني :
لم يُشر الدستور إلى أيِّ معاهداتٍ أو مواثيق دوليةٍ لحقوق الإنسان؛ لذا كانت الحماية محصورةً في الإطار الوطني فقط.وهنا لا بدَّ من الأخذ بنظر الاعتبار الحقبة الزمنية وغياب أمثال هذه المفاهيم الحديثة ابان تلك الحقبة.
دستور 2005: انفتاحٌ على القانون الدولي :
لقد ألزمت المادة (8) من دستور 2005 الدولة باحترام «قواعد القانون الدولي»، كما أنَّ النصوص الدستورية مستوحاةٌ بشكلٍ كبير من المواثيق الدولية.
خامساً : من حيث حظر التمييز وضمان المساواة :
دستور 1925: مساواةٌ محدودة :
نصَّ الدستور على المساواة أمام القانون (م6) ولكن بصورةٍ عامةٍ دون تفصيلٍ للفئات المحمية.
دستور 2005: مساواةٌ شاملةٌ مع حظرٍ صريحٍ للتمييز :
ورد في المادة (14) ما يأتي ((العراقيون متساوون أمام القانون دون تمييزٍ بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي)).هذه القائمة الشاملة تمثل ضمانًا قويًا ضد أيّ شكلٍ من أشكال التمييز.
المحور الخامس: استقلالية القضاء
أولاً : القانون الأساسي 1925:
نظرياً ،كان القضاء مستقلاً، وعمليًا،كان خاضعًا لتأثير السلطة التنفيذية –الملك-،الذي كان يملك صلاحية تعيين القضاة وعزلهم بناءً على اقتراح الوزير المسؤول (م26).
ثانياً : دستور 2005:
1-لقد كفل الدستور استقلال القضاء بشكلٍ واضحٍ وقوي،سواءً على مستوى السلطة القضائية أو القضاة. 2-كفل الاستقلال التام لمجلس القضاء الأعلى وللمحكمة الاتحادية العليا. 3-أوجد المحكمة الاتحادية العليا ومنحها صلاحياتٍ واسعةً في الرقابة على دستورية القوانين وتفسير الدستور وفضِّ النزاعات بين الحكومة الاتحادية والأقاليم.
التحليل المقارن بين الدستورين بشأن استقلالية القضاء :
1-يعدُّ دستور 2005 أكثر تقدماً وضمانًا لاستقلالية القضاء من الناحيتين النظرية والعملية،من خلال إنشاء هياكل وإجراءاتٍ محددةٍ لحماية هذه الاستقلالية.
2-لم يشهد العراق منذ تأسيس الدولة الحديثة استقلالاً للقضاء وللقضاة كما شهده في دستور 2005،فالسلطة القضائية والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم لغير القانون،وهذا أمرٌ واقعٌ حقيقةً وليس حبراً على ورق كما كان في الدساتير الانقلابية الدكتاتورية.
الخاتمة:
تكشف المقارنة بين القانون الأساسي لسنة 1925 ودستور سنة 2005 عن تحوُّلٍ جذريٍّ في الفلسفة والسياق والتطبيق. ففي الوقت الذي مثَّل فيه دستور 1925 وثيقةً تأسيسيةً حديثةً لتأسيس دولةٍ عراقيةٍ حديثةٍ موحدةٍ في ظل نظامٍ ملكيٍّ مركزيٍّ ، فإنه كان إطاراً مرناً يسمح بهيمنة السلطة التنفيذية–الملك- ويوفر حمايةً شكليةً للحقوق.
أما دستور 2005 فقد جاء ليعكس رغبةً في بناء نظامٍ ديمقراطيٍّ اتحاديٍّ بعد عقودٍ من الحكم الدكتاتوري المركزي. فلقد مثَّل ردَّة فعلٍ على مرحلة الدكتاتورية، فاتجه نحو اللامركزية ومنح المزيد من الصلاحيات للأقاليم والمحافظات.وقد تميَّز دستور 2005 بتوسعٍ كبيرٍ في مجال الحقوق والحريات وإقرار النظام اللامركزي والفدرالي وتعزيز استقلالية القضاء.ومع ذلك، فإنَّ التحديات التي واجهها في تحقيق التوازن بين المركز والإقليم وترسيخ الهوية الوطنية فوق الهويات الفرعية كانت أكبر وأكثر تعقيدًا من تلك التي واجهها سلفه. ويبقى كلُّ دستورٍ ابن مرحلته التأريخية وانعكاسًا لها ونتاجًا للظروف السياسية والاجتماعية التي ولد فيها وتمثيلاً لرغبات وتحديات عصره.وبكلمةٍ موجزة يمكن القول إنَّ تجربة هذين الدستورين كانت انعكاساً للتطور في العراق من الدستور «الإطار» إلى الدستور «الضامن».
انتهى بعونه تعالى..