الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
في أربعينية صباح الربيعي.. قاص الضجر العراقي بإمتياز


في أربعينية صباح الربيعي.. قاص الضجر العراقي بإمتياز

فيصل عبد الحسن

 

  نتذكر شذرات من حياة المبدع البصري صباح الربيعي، الذي بَصَمَ القصة العراقية بشَّفرته الخاصة، وإن كان كل ما كتبه ونشره في هذا الفن الأدبي الراقي سوى مجموعة قصصية وحيدة هي» باقة ورد للسيدة» وكان قد قرر كما كتب لي سنة 2008 في رسالة خاصة أن يكتفي بنشر مجموعة قصص وحيدة ولن ينشر غيرها وقد نشرت ذلك في مقال لي نشر في القدس العربي في 30 أبريل 2008 تحت عنوان «ورد للسيدة.. مجموعته الأولي وأرجو أن لا تكون الأخيرة!» لكنها للأسف كانت الأخيرة بالفعل !!

   لم يكتب الربيعي غيرها بالرغم من أنه كان يعمل في الحقل الثقافي من خلال تلفزيون الشرقية، ويعد برنامجا ثقافيا فيها عن أحدث الإصدارات الثقافية في العالم.

   اشتهر القاص بين الكتاب البصريين في السبعينات بظرفه واختلاف ما يكتب من قصص عما هو سائد في تلك الفترة. وقد كتب لي قبل سنوات من دولة الإمارات معبراً عن رأيه بمقال كتبته ونشر في إحدى المجلات، وكان مقالي يحكي عن أدباء مدينة البصرة في السبعينات. سجلتُ فيه ما كان يدور في المقاهي البصرية من أحاديث أدبية وسياسية.

   كان الحضور المميز في تلك المقاهي لوجوه بصرية معروفة وبين من يحضر كتاب وشعراء معروفون ك(كاظم الأحمدي ومحمود عبد الوهاب وحسين عبد اللطيف وصباح الربيعي وكاظم الحجاج وعبد الحسين الغراوي ومهدي جبر وإسماعيل حطاب والشاعر الرقيق عبد الخالق محمود ومحمد خضير وكاتب هذه السطور.).

   عندما قرأت رسالة الربيعي في بريدي مرّ بي كل ذلك الماضي الضاحك والمرير في آن واحد. ضاحك لأني عشت بين مجموعة هازلة صيرت مراراتها فكاهات محبوكة لا تفلح مهما بلغ الإصرار داخلك علي الصبر وعدم إظهار الخفة والضحك لئلا تبدو سخيفا.

    أتذكر أننا كنا نجلس في أشد الأيام حرارة في مقهي من أردأ المقاهي في العالم ونشرب ما يصنع فيها علي أنه شاي وهو يشبه سائل العلقم!! وريح السموم تحرق وجوهنا ورائحة التبغ الرخيص تخنقنا!! في هذا الجو الحميمي الحار كان (صباح الربيعي) يكتب قصصه القصيرة وينشرها، ويناقش مضامينها مع الحاضرين.

الضجر العراقي

   أتذكر أن قصة نشرت له في لبنان عندما كان المرحوم د. سهيل إدريس يشجع الكتاب العرب الشباب للنشر في مجلة (الآداب)، والقصة تتحدث عن جيلنا وبحثه عن الحرية والانعتاق من هيمنة التقاليد والأسرة وبحثه عن التجربة المستقلة، والقصة مكتوبة بطريقة أثرت فينا جميعا ممن كنا نكتب القصة القصيرة في ذلك الوقت: (صبي يقرر أن يترك عائلته التي تفرض عليه أن يفعل كذا وكذا ولكن إلي أين يذهب؟!! لا يدري المهم لديه فكرة الخلاص من العائلة، فيركب القطار الذاهب إلي السماوة وسط فصيل من الجنود المنقولين إلي حرب الشمال ـ    المهم في القصة أن الصبي يخفي تحت قميصه حمامة ربط قدميها بخيط إلي رقبته وبين فترة وأخري يخرج هذه الحمامة من تحت قميصه لتشرب الماء أو ليضع في منقارها قليلا من الخبز الذي يمضغه في فمه حتي تستطيع بلعه. وعندما يصل الفتي إلي السماوة يطلق ذلك الطائر المحبوس كمعادل موضوعي لانطلاقة الفتي من آسر الأسرة).

   قصصه في مجموعته، كلها تعبر عن ضجر العراقي وضيقه بحياته، فأبطاله يعانون من حر العراق وذبابه وبعوضه، وعادات أهله العشائرية في أخذ الثأر أو غسل العار كما في قصته « السفر باتجاه مدن الجنوب» ، وفي قصته «أشجار الليل» يصرح بطله «ولم أكن أعبأ بشيء « فيرد على نفسه «ستظل إلى النهاية هكذا» ولكنه يتأثر بما حدث لصديقه، وجليسه في المقهى الذي تصاب زوجته بلوثة عقلية تجعلها كلما غاب زوجها عن البيت تخلع ملابسها وتقف في النافذه المطلة على الشارع عارية تماماً ليراها المارون والفضوليون أو تخرج إلى الشارع عارية!!

فيقول له «طلقها» فينظر إليه ذلك الصديق قائلاً:» المفروض أن أقف معها في محنتها يا صاحبي.» ويترك صديقه في محنته، ويتأمل السارد دوامات الغبار الكثيف في خارج المقهى، ويردد لازمته المعتادة» صرت أشعر بالضجر أكثر من ذي قبل يالها من حياة!!» وفي قصة «الفرح الغامض» ولاحظ العنوان، أن حتى الفرح الذي يأتي أبطاله سيكون فرحا غامضا لا يعرفون مصدره !!

  القصة تحكي عن فتى في العاشرة من عمره يبيع الكلينكس في مقهى بمحلة الحيدرخانة في بغداد، ويتساءل بطل القصة عن المصير الكئيب لهذا البطل الصغير، الذي لا ذنب له في الوجود سوى نزوة أب ضجر من الحياة. يقول لجليسه في المقهى الذي يفكر أنه سيبقى بلا ذرية ولا يدري من سيحمل اسمه بعد موته، فيقول له السارد ضجرا أنه لا يفكر بمن يحمل اسمه بل بمن سيرفع نعشه عند موته!! وينهي القصة بمروحة المقهى البطيئة التي تدور وتوزع دخان السجائر بالتساوي على الجالسين !!

رسالته الأخيرة

   أبطال قصص الربيعي دائماً يعيشون الضجر العراقي من الحياة ومن المستقبل، ويمكننا أن نصفه بأن صباح الربيعي قاص الضجر العراقي بامتياز. ضجر صارخ من كل مفردات الحياة في العراق: الطقس وحرارته معظم أيام السنة، وحشراته المزعجة كالذباب في النهار والبعوض ليلا وأبو بريص والخنافس في الصباح الباكر، وكلابه الضالة المتوحشة، وعادات عشائره في غسل العار والثأر الأعمى، وازدحامات السيارات وكثرة البشر بأسمالهم من الدشاديش والنعالات المقطعة، وخرائط الملح تحت أباطاتهم بفعل العرق الغزير، وهم يجولون في المقاهي والشوارع، ودخان سجائر اللف الكريهة، ضجر من صعاليكه المتأدبين وسكيريه المدمنين وهم يتقيأون، ونساء المنزول العجائز المترهلات، والنفخة الكاذبة لرجاله.

   أتذكر طرفة حياتية من طرفه، أنه ذهب في يوم جمعة إلي سوق كبير يقام في البصرة كل أسبوع، وتباع فيه المستعملات، فاشتري عددا من الكتب المهمة المستعملة، التي كان يبحث عنها وساعده بحمل الكتب أحد أصدقائه، وكان هذا الصديق مشهورا بين الأدباء بنقاشه الدائم عن أفضل الطرق في الانتحار، وكرهه للحياة، وتمنيه الموت (الغريب أنه بقي حيا يرزق حتي كتابة هذه السطور بينما مات صباح الربيعي يرحمه الله ومات غيره، وانتحر من انتحر طيلة العقود الماضية !!) فكان يمشي وسط الشارع حاملا الكتب التي اشترها الربيعي، فنبهه إلي مخاطر المشي وسط الشارع قائلا: انه يحترم رغبته في الموت !! لكنه يخاف علي كتبه من أن تتلوث بدمائه إذا دهسته سيارة.

  اختفى القاص طيلة الثمانينات والتسعينات ومرَّت بالعراق خلال هذه العقود أحداث دراماتيكية، ولم أسمع عنه خبرا ثم بعد تلك السنوات وجدت رسالته الأخيرة في بريدي وقد جاء فيها: «بعد السلام سأرسل لك مجموعتي القصصية الجديدة وهي أول مجموعة قصصية وآخر مجموعة، ولن أنشر بعدها شيئا!!»

   أول الأمر لم أتذكر اسمه فكم من ربيعي مرَّ في طريق كتابة القصة والأدب العراقي، ولكن قوله أنها أول مجموعة وآخر مجموعة!! ذكرتني بظرف وفكاهة صباح الذي أعرفه!!…وفعلا كما وعد فقد كانت المجموعة القصصية الوحيدة التي أصدرها، ولم يصدر بعدها شيئاً، حتى وفاته.

   عندما وصلتني مجموعته القصصية الأولي (باقة ورد للسيدة) تمنيت أن لا تكون الأخيرة لأن الربيعي كان قاصا ماهرا موهوبا ومن الممكن أن يضيف لهذا الفن الأدبي الصعب الكثير من جمال روحه !!

  قرأت للمرة العشرين قصته تلك التي أثرت بجيل بصري كامل من كتاب القصة القصيرة:(القطار الأخير..المحطة الأخيرة)وضمت المجموعة قصصا متفوقة أخرى كتبها الربيعي طيلة العقود الماضية: رجل.. ونهر ورصيف ـ التي أهداها إلي القاص عبد الستار ناصر ـ الجرح البارد، حديث دم، صورة فوق الجدار وغيرها.

   الكاتب العراقي بالرغم من ظروف بلاده المعروفة التي هي بين الموت والحياة تعلم منها كيف يولد من جديد كطائر الفينيق الذي يحترق ويولد من رماده من جديد!!

   وفي أربعينية القاص البصري والوجه التلفزيوني العراقي صباح الربيعي الذي انتقل إلى دار البقاء في 23 حزيران 2025 أقول: إلى رحمة الله قاصنا الظريف لقد علمتنا أن نعيش مع الضجر العراقي ونتقبله كقدر مكتوب.

  *كاتب مقيم في المغرب


مشاهدات 145
الكاتب فيصل عبد الحسن
أضيف 2025/10/04 - 1:54 AM
آخر تحديث 2025/10/05 - 3:08 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 473 الشهر 3173 الكلي 12043028
الوقت الآن
الأحد 2025/10/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير