الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
حرية الملاحة في هرمز.. شأن دولي

بواسطة azzaman

حرية الملاحة في هرمز.. شأن دولي

ليلى علي إبراهيم السامرائي

 

لم تعد السيطرة في القرن الحادي والعشرين تتحقق فقط عبر التفوق العسكري التقليدي أو الغزو المباشر، بل أصبحت الموانئ والممرات المائية وموارد المياه أدوات رئيسية لصناعة النفوذ وإعادة تشكيل خرائط السياسة والاقتصاد العالمي. هذه السيطرة لا تعني مجرد التحكم بحركة السفن أو توزيع المياه، بل تعني امتلاك القدرة على إدارة مسارات التجارة العالمية، والتحكم بإمدادات الطاقة، وفرض وقائع جيوسياسية قد تغيّر موازين القوى لسنوات قادمة.

المياه، التي كانت يوماً رمزاً للحياة والزراعة، تحولت إلى أداة ضغط إستراتيجية. في حروب المياه الحديثة، لا يحتاج الطرف المهيمن إلى إطلاق النار، بل يكفيه أن يبني سداً ضخماً أو يحوّل مجرى نهر ليخلق أزمة وجودية لدولة بأكملها. تركيا مثال بارز على ذلك، إذ تتحكم بمنابع نهري دجلة والفرات عبر سلسلة من السدود والمشاريع المائية، ما يمنحها نفوذاً مباشراً على العراق وسوريا، ويضعها في موقع قادر على التأثير في الأمن الغذائي والمائي لهذين البلدين. في العراق، يظل سد الموصل تهديداً قائماً، ليس فقط بسبب هشاشته واحتمال انهياره، بل لأن مصيره يرتبط بسياسة المياه التركية التي تستطيع زيادة أو تقليص التدفق وفق مصالحها، وهو ما يجعل المياه أداة مساومة أو ضغط سياسي.

في شرق أفريقيا، تظهر صورة مشابهة لكن أكثر تعقيداً في أزمة سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق. النزاع بين إثيوبيا ومصر والسودان لا يتعلق فقط بتوزيع حصص المياه، بل يتقاطع مع مصالح ملاحية وتجارية عالمية. فإضعاف الموقف المصري مائياً قد يفتح الباب أمام تحولات كبرى في حركة التجارة، وأحد أخطر هذه التحولات هو التمهيد لمشاريع بديلة لقناة السويس، وعلى رأسها “قناة بن غوريون” التي تخطط إسرائيل لشقها لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط. هذه القناة، إذا ما رأت النور، ستسحب جزءاً من حركة الملاحة من قناة السويس، وهو ما يضرب أحد أهم مصادر الدخل الاستراتيجي لمصر ويمنح إسرائيل ورقة ضغط اقتصادية وجيوسياسية بالغة القوة.

هذه الروابط بين نزاعات المياه ومشاريع الممرات البديلة تكشف عن صورة أوسع: فالمسألة ليست مجرد صراع إقليمي على مورد طبيعي، بل هي إعادة رسم لخريطة طرق التجارة العالمية، حيث تُستخدم الأنهار والسدود كـ”حصان طروادة” لتمرير أهداف أوسع تتعلق بالتحكم بالملاحة الدولية.

وإذا انتقلنا إلى الخليج العربي، نجد أن مضيق هرمز يمثل المثال الأوضح على كيف يمكن لممر بحري أن يتحول إلى ورقة ضغط عالمية. هذا المضيق الضيق يمر عبره نحو 20% من النفط العالمي، وأي اضطراب فيه، سواء نتيجة التوترات بين إيران ودول الخليج أو بفعل هجمات الحوثيين على السفن، ينعكس فوراً على أسعار النفط والاقتصاد العالمي. الحوثيون، المدعومون من إيران، أظهروا أن قوى غير دولية يمكنها استخدام أساليب حرب غير تقليدية، مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ، لتعطيل الملاحة وتهديد أمن التجارة البحرية، في سياق استراتيجية أوسع لمد النفوذ الإيراني من اليمن إلى الخليج.

وفي ظل هذه التوترات، تعمل الإمارات على بناء نفوذ بحري طويل الأمد عبر الاستثمار أو السيطرة على موانئ إستراتيجية في البحر الأحمر مثل ميناء عدن وأجزاء من موانئ إريتريا، إضافة إلى وجودها في شرق المتوسط والسواحل السورية. هذه الاستراتيجية تمنحها موقعاً محورياً على خطوط التجارة بين آسيا وأوروبا، وتتيح لها التوغل نحو الخليج من جهة، والسيطرة على نقاط عبور بحرية حساسة من جهة أخرى. ومن خلال هذا التوسع، تستطيع أبوظبي التأثير في حركة الإمدادات العالمية وموازين القوى الإقليمية، خاصة في ظل التنافس على طرق الشحن البديلة والممرات التجارية الجديدة.

وفي قلب هذا المشهد، تبدو القوى الدولية الكبرى، وعلى رأسها بريطانيا، معنية بشكل مباشر. فحرية الملاحة في مضيق هرمز والبحر الأحمر ليست مجرد شأن إقليمي، بل قضية تمس الاقتصاد العالمي وتدفق الطاقة نحو أوروبا. ولهذا تحتفظ لندن بوجود عسكري بحري دائم في البحرين وسلطنة عمان، لتؤكد أن حماية الممرات البحرية جزء من مصالحها الإستراتيجية، في وقت تتابع فيه أيضاً مشاريع الممرات البديلة مثل قناة بن غوريون لما قد تحمله من تأثيرات على خريطة التجارة العالمية.

عندما ننظر إلى هذه الأحداث مجتمعة، من سدود تركيا وإثيوبيا، إلى مشاريع القنوات البديلة، مروراً بمضيق هرمز وهجمات الحوثيين، وصولاً إلى استراتيجيات الموانئ في البحر الأحمر والمتوسط، ندرك أن العالم يعيش صراعاً بحرياً ومائياً متشابكاً. هذا الصراع لا تدور رحاه في ميادين المعارك التقليدية، بل في غرف التخطيط الإستراتيجي، وعلى خرائط الملاحة، وعبر عقود الاستثمار والسيطرة على البنية التحتية للموانئ. وفي ظل تغير المناخ وازدياد ندرة المياه، فإن هذه النزاعات مرشحة للتصاعد، لتصبح السيطرة على الممرات البحرية وموارد المياه أحد أهم مفاتيح القوة في النظام الدولي الجديد.

 

 

 


مشاهدات 71
الكاتب ليلى علي إبراهيم السامرائي
أضيف 2025/08/17 - 3:06 PM
آخر تحديث 2025/08/18 - 12:14 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 376 الشهر 12778 الكلي 11407864
الوقت الآن
الإثنين 2025/8/18 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير