من أجْل إخراج لبنان من الجب
فؤاد مطر
لو كان مؤتمر الطائف الذي إنعقد في زمن الملك فهد بن عبدالعزيز رحمة الله عليه وجُب عقْده للمرة الثانية في رعاية شقيقه الملك سلمان وحدْب ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان وفي الرياض لعلاج الأزمة اللبنانية المستعصية لكان هذا المؤتمر سيبلور واقع حال لبنان وسيثُبْت البند الأساس مما سبق التوافق عليه في مؤتمر الطائف قبْل ست وثلاثين سنة أضاع اللبنانيون ثلثيْها في مجادلات ثم في إنصهار طيف منهم في حالة كثيرة التعقيد من الولاء لدولة في الإقليم، وكانت تلك حالة غير مسبوقة في تاريخ لبنان حيث أن في الدولة مسائل غير محسوم قرارها بفعل تأثير ما إصطُلح لدى أطياف سياسية وحزبية على تصنيفه دويلة، وذلك لأن لديها من أنواع السلاح المستحوذ في ظروف كثيرة التعقيد عاشها لبنان، ما قيل إنه أكثر فعالية كما أكثر عدداً وعتاداً مما لدى الجيش المؤسسة الرسمية للدولة.
والقول بأنه سيكون هنالك تأكيد لما سبق وتضمنتْه وثيقة مؤتمر الطائف، وتعضيد جوهر هذه الوثيقة وإضفاء المزيد من الحرص على ثباتها وبلورة بعض مضامينها في ضوء متغيرات حدثت في المنطقة على مدى ثلاثة عقود، فلأن تلك الوثيقة لم تترك في بعض بنود أبوابها مجالاً لأي هوى في التفسير. ثم هنالك في مضمونها ما يشكّل مع الوقت ترسيخ مفاهيم كفيلة بإبراء جراح على المستوى العام بشكل خاص في ركائز صيغة التوافق التقليدي الحافظ إستقرار لبنان.
وحيث أن عقدة التوافق راهناً بين الطيفين، طيف الولاء الإضطراري وشأنه السلاحي وطيف الولاء الإستنسابي وشأنه السياسي التحزيي حصراً، هي تلك المتصلة بالسلاح والميليشيات، فإن مؤتمر الطائف إفترض وهو يوثق ما يتعلق بالسيادة أن اللبنانيين سيودِّعون ويلات الإحتراب والمظاهر المسلحة والإغتيالات والمجادلات التي تنعكس سلباً على إستقرار الوطن، وسيعتبر هذا المسؤول أو ذاك بعدما حدثت القيامة الدستورية الميثاقية أن كتاب تلك المرحلة المحبَّرة بعض صفحاته بالدماء سيُطوى ليبدأ التسطير بمداد الإلفة والتوافق وبناء الوطن بالتكاتف وإسقاط المحاذير.
والقول إن وثيقة الطائف قرأت مبكرة ما ربما يحدُث، ولقد حدث مع شديد الأسف، فإنها بهدف حسْم الأمر وقطْع الطريق على السلاح غير النظامي وعلى التسليحيين الذين بالغوا في سخاء تقديم السلاح بمختلف الأنواع والفعاليات، ثبَّتت مفهوم بسْط السيادة على أساس (وهذا ما تم الاتفاق عليه) بنص واحد "حل جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية خلال ستة أشهر تبدأ بعد التصديق على وثيقة الوفاق الوطني وإنتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل حكومة الوفاق الوطني وإقرار الإصلاحات السياسية بصورة دستورية".
هذا النص كان يحتاج إلى تثبيت وتنفيذ، لكن الأمور والدور الثنائي المشترك (النظام السوري الأسدي والنظام الإيراني) كان السبب في خروج، بل إخراج النص عن مداره، ثم تتطور الأمور وتزداد تعقيداً شهراً بعد شهر ثم سنة بعد سنة، ثم لدواعي الدور المشار إليه باتت مسألة السيادة وتخمة السلاح غير الرسمي، تنعكس ذبولاً على مضمون بنود من وثيقة تناساها البعض ثم إستعادوا التذكير بها إنما بتفسيرات غير تلك التي ترومها الدولة ومفاهيمها ودستوريتها، وهي بمثابة مبادئ عامة تضمنتْها أيضاً وثائق "إتفاق الطائف" وأكثرها تحديداً "لبنان وطن سيد حر مستقل وطن نهائي لجميع أبنائه. عربي الهوى والإنتماء".
هنا وجوب الإشارة إلى أن الطيف المسلح الموالي لإيران ليس وحده الذي منذ 36 سنة هي سنوات إتفاق الطائف لم ولا يلتزم بما يتعلق بالبند الأساسي معتبراً أنه "مقاومة" وليس "ميليشيا" وسلاحه من أجْل لبنان وليس كورقة لتعزيز شأن الطائفة، وإنما هنالك بعض رئاسات جمهورية وحكومية تتالت وإعتبرت الأمر وكأن لا إتفاق طائف إنعقد وقرر وحسم وتمت الموافقة دستورياً على ما تم إتخاذه، ثم إن الدور السوري في لبنان على مدى عشر سنين مثَّل سبباً رئيسياً في إخراج الهدف لمؤتمر الطائف من دواعي حرص المملكة العربية السعودية على وضْع لبنان في غرفة العناية الفائقة بأمل إبرائه من الذي ألحقتْه به حرب 1975. والآن وقد بات ذلك الدور رئاسات وتدخلات في الشأن اللبناني من الماضي كما بات رؤساء جمهورية وحكومات ذات هوى بتلك الحقبة في ذمة التاريخ وإثنان منهما في ذمة الله، فإن قراءة جديدة مطلوبة ﻟ "إتفاق الطائف" خصوصاً أن ذلك الدور أخذ مداه إلى درجة التعاهد على مدى سنوات أربعة رؤساء جمهورية تعاقبوا على الرئاسة ومعهم سائر رؤساء الحكومات وكل رئيس حكومة يبدي من الحرص على العلاقة مع سوريا المتدخلة بمثل حرص رئيس البلاد.
الآن هنالك في ضوء ما يعيشه لبنان من جولات وصولات قوامها عبارات تقال ومظاهر غير مستحبة تحدُث وإنسحاب من جلسة لمجلس الوزراء يناقش مسألة لا خيار له سياسياً ولا سلاحياً فيها، حاجة إلى محاولة لإبراء لبنان من تردي صيغته التوافقية المتراجعة. ومن هنا فإن مبادرة لمؤتمر مصغَّر يمثل الجميع، ما داموا يعلنون على الملأ الإلتزام بإتفاق الطائف، ترعاه المملكة العربية السعودية إستضافة ودعماً وتدعيماً عمرانياً ومساندة في الوقت نفسه للمسعى الأميركي – الدولي هو الحل المنشود المأمول وعلى أساس أن سابقة "مؤتمر الطائف" أثمرت رئاسة وتهدئة فيما الذي يرومه لبنان الشعب والصيغة والكيان من المملكة هو إخراج الوطن من حال وهدته المستعصية... وكما إخراج يوسف من الجب، وهي دون سائر المرجعيات الإقليمية والدولية الأكثر إقتداراً على ما نشير إليه.