المعارضة تحذّر من تفكيك العدالة: إقالة المدعية العامة تهزّ النظام القضائي في إسرائيل
محمد علي الحيدري
لا يُختبر صمود الدولة الحديثة فقط في مواجهة الحروب والصراعات الخارجية، بل في لحظات الاحتكاك الحاد بين السلطات داخلها. وقد قدّمت الحكومة الإسرائيلية مشهدًا مثاليًا لهذا النوع من الاختبار، حين صوّتت – بغياب رئيسها بنيامين نتنياهو – على إقالة المدعية العامة غالي باهراف‑ميارا، الشخصية القانونية التي تترأس ملف قضايا الفساد المرفوعة ضد نتنياهو نفسه.
للوهلة الأولى، قد يبدو القرار إجراءً قانونيًا صرفًا، يدخل ضمن صلاحيات الحكومة التنفيذية. غير أن النظر العميق يكشف عن وجه آخر: محاولة التفاف خطيرة على منظومة العدالة، وضربة مباشرة لاستقلال السلطة القضائية. ذلك أن المدعية العامة لم تكن فقط موظفة حكومية، بل كانت صمام أمان مؤسسي يُذكّر الإسرائيليين – والعالم – بأن القانون فوق الجميع، حتى فوق الرجل الجالس على رأس الهرم السياسي.
غياب نتنياهو عن جلسة التصويت، بحجة “تضارب المصالح”، لا يغيّر شيئًا من جوهر القرار؛ بل يزيده إثارة للريبة. فمن ذا الذي لا يرى في هذه الإقالة مسعى لإعادة ترتيب بيت العدالة على نحو يناسب مصالح المتهم بدلًا من حقوق الدولة والمجتمع؟ وهل من معنى فعلي لمفهوم “تضارب المصالح” إذا بقيت قرارات فريق المتهم هي التي تحدد مصير خصمه القانوني؟
لقد أحسنت المحكمة العليا صنعًا حين أوقفت القرار فورًا، وأصدرت أمرًا بتجميده لحين البت في الطعون المقدّمة. فهذه ليست لحظة عابرة في الصراع السياسي الإسرائيلي، بل منعطف حاد بين دولتين: دولة القانون التي وُعد بها الجمهور، ودولة الحزب الواحد التي تتحرك كأن لا مؤسسات فوقها ولا محاسبة تنتظرها.
في هذا السياق، تُحسَب للمعارضة السياسية الإسرائيلية وقوفها الحازم في وجه هذا القرار. ومثلها فعلت منظمات مدنية وحقوقية، رأت في إقالة باهراف‑ميارا خطوة غير قانونية، ومقدمة لهدم ما تبقى من توازن بين السلطات. فليست القضية قضية شخص، بل مبدأ: هل يجوز لأي سلطة تنفيذية أن تعيد تشكيل السلطة القضائية على مقاس مصالحها الآنية؟ وهل نريد لدولة العدالة أن تتحول إلى دولة تسويات سياسية تحت الطاولة؟
لقد حذّرت التجارب السياسية المعاصرة – من تركيا إلى هنغاريا – من عواقب تسييس القضاء. وما يجري اليوم في إسرائيل ليس بعيدًا عن هذا النمط الخطير. وإذا كان القضاء هو آخر ما تبقى من حصون المحاسبة، فإن المساس به ليس فقط انحدارًا أخلاقيًا، بل مقامرة بالمجتمع بأكمله.
في النهاية، لا نحتاج إلى كثير من الخيال كي ندرك أن إقالة المدعية العامة ليست إلا فصلًا جديدًا في معركة طويلة بين الدولة كفكرة، والسلطة كوسيلة. ولهذا، فإن الدفاع عن باهراف‑ميارا هو دفاع عن المبدأ، لا عن الشخص. وعن الدولة، لا عن المعارضة. وعن القانون، لا عن السياسة. وفي هذا السياق، تبدو المحكمة العليا، ومعها كل صوت حر، على الجانب الصحيح من التاريخ.