جبارة.. راهب المسرح الحالم بالكلمة والصورة
محمد علي محيي الدين
في مدينة الحلة، حيث الفرات يهمس للأدباء، وعبق التاريخ يسكن الأزقة، وُلد في الثاني من تشرين الأول عام 1958 فنان لم يكن حضوره عابرًا في المشهد الثقافي العراقي، بل علامة فارقة فيه. إنه ثائر هادي جبارة، المسرحي، الكاتب، الشاعر، ابن الشاعر الشعبي هادي جبارة، الذي تربّى في بيت تنبعث منه رائحة القصيدة، وتتشكل فيه مفردات الفن كما تتشكل الأرغفة في تنور الجنوب.
في المدارس الحلية، ابتدأ المشوار: الرشاد، ثم متوسطة الأحرار، ثم إعدادية الحلة للبنين، وهناك بدأت البذور الأولى للعرض المسرحي تنمو في وجدانه. لم يكن الفن بالنسبة إليه مجرّد مهنة، بل مشروع حياة. ولذلك، حين خطى أبواب أكاديمية الفنون الجميلة في بغداد، لم يكن طالبًا فحسب، بل حامل همّ، يسعى لتحويل القلق العراقي إلى مشهد حي، تُشاهد فيه الذات وهي تتقلب بين وجعٍ وأمل، وبين صرخة وصمت.
تخرج عام 1984، لكن التكوين الفني لم يكن يومًا حبيس القاعات الجامعية، بل اختبره في الميدان، في المدارس، في الساحات، على المنصات، وفي العروض الميدانية، ليُصبح واحدًا من أهم العاملين على خشبة المسرح، ممن عرفوا كيف يُحيون النص ويجعلونه كائنًا نابضًا بالتجربة. نقّاد المسرح والمتابعون لم يكونوا غافلين عن بصمته الفريدة. فقد اعتُبر ثائر جبارة من المخرجين القادرين على ملامسة جوهر الإنسان عبر تكوينات بسيطة الشكل، عميقة المحتوى. يقول الناقد ناجح المعموري في إحدى مقالاته: «ثائر ليس مجرّد مخرج، بل شاعر على خشبة المسرح، يرى العالم بعين مختلفة، يركّز على أنسنة الصورة، ويغوص في مفردة العرض وكأنها ومضة وجودية».
أعماله المسرحية مثل «كلمات غير متقاطعة» و»صانع التوابيت» لم تمرّ مرورًا عاديًا في المهرجانات، بل كانت مثار نقاشات طويلة بين النقاد، لما فيها من تجريب واعٍ، واشتغال فني على الإضاءة، والحركة، والدلالة الرمزية. وهو لا يتوقف عند كتابة النص بل يقدمه برؤية إخراجية تحمل في طياتها خبرة المربي والمجرب، وهو الذي عمل لسنوات مدرسًا ومشرفًا على النشاطات المسرحية المدرسية.
كثيرة هي الجوائز التي نالها، لكن الجائزة الأسمى في تجربته بقيت تلك التي يمنحها الجمهور: تفاعلٌ حقيقي، وانشداهٌ لعروضه، واعترافٌ من أهل الحلة وخارجها بأنه أحد أبناء المسرح الأصيلين. في مهرجانات كربلاء وبغداد والبصرة ومرّوان الإيرانية، كانت بصمته واضحة، جاذبة، لا تشبه سواه.
أما في ميدان الكتابة، فقد اتسعت مكتبته لتشمل مؤلفات عديدة، منها: «ما لم يقله البهلول»، و»أغنية الهم والهم»، و»رؤى إخراجية معاصرة»، و»الأنسنة في المسرح»، وكلها تحفر في عمق الفكرة وتشتغل على تحويل الهم المسرحي إلى اشتغال فكري وجمالي. ولم ينسَ أباه، فقد جمع وحقق ديوانه في كتاب «الفرحة الكبرى».
وقد كان لأعماله صدى أكاديمي، فدُرست مسرحياته في رسائل ماجستير، وتناولت عروضه بحوثٌ وسمنارات، مما جعله من القلائل الذين التقى عندهم الإبداع والمساءلة النقدية. والنصوص التي كتبها، سواء أكانت منشورة في الصحف والمجلات العراقية والعربية، أم مسرحياته المخطوطة مثل مجموعته «تويتر»، تنضح بروح شاعرية تقترب من النثر، وتحتضن الأسئلة الكبرى: من نحن؟ وكيف نُعيد بناء الإنسان العراقي؟
في تجربة جبارة تتآلف ثلاثة عوالم: عالم الطفولة المجبولة بالشعر الشعبي، وعالم الأكاديمية الذي صقله فنيًا، وعالم الممارسة المسرحية الذي اختبر فيه الكلمة واللون والحركة. وبين هذه العوالم تتولد نصوصه، لا كأعمال مسرحية فحسب، بل كبيانات جمالية ذات موقف من الإنسان والحياة.
إنه ابن الحلة، لكنه أيضًا ابن المسرح العربي، وأحد أبرز الأصوات التي قالت الكثير، وظلّ عندها أيضًا الكثير مما يُقال. فجبارة ليس فنانًا من الزمن الجميل فحسب، بل من الزمن القادم أيضًا.