الطخماخ

رحيم الشاهر

في أيام الحصار ( تسعينات القرن الماضي) ، وقبلها في عقد الثمانينات ، شاع المثل الشعبي الشهير:» خريج مريج يشرب بالبريج» ، وكنت حينها ومنذ سنتين، قد انضممتُ توا لأكون عامل بناء ، مع مجموعة (البناء) التي يترأسها البناء ( أبو سلام) لسد رمق عائلتي، حيث بلغ سعر (كغم طحين) ألفي دينار ، وما يتقاضاه العامل  من الصباح إلى المساء هو ألفا دينار ، وفي ذلك الزمن الغابر كان قد انضم ألينا(ومنذ 9 أشهر) عامل جديد لُقب ( بالطخماخ)، وهو خريج (آداب قسم الفلسفة) ، كان قوي الجسد، متماسك البنية ،سخي ، اعتمده أستاذه( لتفليش) كل جدار يستعصي على جميع العمال معه ، ولكن ماخفي في سريرة ( هذا الطخماخ) السخي كان أمر وادهي  مما تتوقعَه!، ستخبركم به الكلمات القادمة .

ففي  يوم من الأيام، وعندما كانت المجموعة تعمل ( ومنذ عشرة أيام) في هيكل بناء على أطراف المدينة باتجاه الصحراء، كُلف (الطخماخ) (بتفليش) جدار ضخم، لايستطيع عشرة عمال من تفتيت حصاة واحدة منه ، حتى أن (الطخماخ) رفض أن يتناول طعام الفطور في ذلك (الصباح التموزي اللاهب) ، وعندما اقتربنا إلى منتصف النهار(حتى كأن الساعة من ذلك اليوم بألف سنة مماتعدون) ، سمعنا (بصرخة مرعبة ) لم نسمع بمثلها طيلة حياتنا! ، وعندما هرعنا إلى المكان ، وجدنا ( الطخماخ) ممددا على الأرض ( والمعول) مرمى على مسافة منه، والنزيف يفور من انفِه ورأسِه الذي ارتطم بقطع ( البلوك) المتناثرة آنذاك فسارعتا بنقله إلى المستشفى ثم مكث في البيت سنوات ، وبعد زمن فارق الحياة حيث تبين أن ( الطخماخ) رحمه الله تعالى!، كان مصابا (بالصرع) ، ولم يتناول الدواء اللازم في ذلك اليوم، فباغتته النوبة قبل أن يتمالك أعصابه ، فكانت ( واقعته) مؤلمة أبكتنا جميعا ، فكان ( الطخماخ) احد ضحايا الحصار الذي فرضته (أمريكا)آنذاك ، والذي صارت ترويه بمرارة ذاكرة الآباء للأبناء، والأجداد للأحفاد ، فلم تقتل أمريكا (الطخماخ) برصاصة البندقية، لكنها قتلته برصاصة الغذاء ، والدواء واليوم وبعد أكثر من ثلاثين عاما ، طرق ذاكرتي (محيا الطخماخ)، فذاكرة الكُتّاب لم ولن تنسى أشباحها المعذبين ، يرحلون من غير أن تشيعهم الكلمات،  فهل تستطيع (أمريكا) اليوم أن تكفر عن ذنبها ، وتقيم مجلس العزاء، على روح ( الطخماخ)؟!

فلا يريد ( الطخماخ ) اليوم من (أمريكا)،أكثر من أن تجسد مقولة زعيمها ( مارتن لوثر كنغ) : « الظلم يهدد العدالة في كُلِّ مكان»!