الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
ضابط الشرطة والشاعر


ضابط الشرطة والشاعر

وجيه عباس

 

تصور أنك تقف مع امريء القيس  والمتنبي وابي نؤاس وابي تمام والبحتري والشريف الرضي والجواهري وعبد الرزاق عبد الواحد وتكون مرتديا ملابس الشرطة، ربما سيعدها بعضهم إساءة (مع العلم ان أبي تمام كان يعمل في ديوان البريد الذي يتماثل مع عمل جهاز المخابرات)، لكن أن تكون ضابط شرطة فذلك دَيْنٌ عليك دفعه لابسبب شخصك، بل لأن جهاز الشرطة ينحصر في التعامل بتقييد حرية الآخرين، لذا فهناك حساسية شعبية تجاهه، ربما يكون عمل الآخر عملا مشينا ومن دون كرامة انسانية، لكنه يجد الاحترام عند فئات من الناس تشبهه خَلقا وخُلقا!، لكن ان تكون  محترفا في ملعب اللغة، ولم تكن حَكَماً مرتشيا في التعامل مع الناس فتلك قسمة ضيزى، تصوروا ان تحت هذه البدلة الزيتونية روحا شفافة لاعلاقة لها بشارب صاحبها او كرشه الذي يستطيل ويعود فتلك فجيعة...

شاعر مداح

لا أدري لماذا نتذكر الشاعر وكأنه يحمل ملامح انثوية رقيقة، لماذا لايتشابه الشعراء مع المجرمين مثلاً؟!، الشاعر المداح والانتهازي يشترك في مجازر لغوية يكون الناسُ ضحيتها اذا ساهم في تجميل جروحها بمكياج لطمس الحقيقة في حرب عبثية يدفع الشعب أثمانها مضاعفة، الشاعر السلطوي بإمكانه قلب الباطل إلى حق، والحق إلى باطل، ويبقى هو الشاعر المجرم الذي يخلده التأريخ الموسمي للكتاب الطغاة وأعني بهم سيارات أجرة السلاطين.

العجيب أن مفردة شرطة ومفردة شعر تبدءآن بحرف الشين وتحتوي كلتاهما على حرف الراء، والشين ان اجتمعت مع حرف الراء تصبح شراً لابدَّ منه!، قمة التناقض أن تجتمع صفة ضابط الشرطة مع شخصية الشاعر في شخصية واحدة في نظام أقل ما يُقالُ عنه بأنه نظام فاشي، ضابط الشرطة الذي يتعامل بواقعية مع جرائم القتل هو نفسه الذي يذوب في جسد اللغة لينتج نصوصاً لاعلاقة لها بملابسه التي تغلِّفُه أو شخصيته التي تتلبسه وهو يؤدي دوره التمثيلي على مسرح واقع الحياة المُرّة...هو تناقض شخصي يحيل القلق والبحث عن الذات الحقيقية إلى همٍّ يومي مقدر له أن يعيشه وهو يريد الثبات على شخصية واحدة يعلنها أمام الجميع، بينما الجميع يؤيده هنا...ويؤيده هناك، يعارضه الجميع هنا...ويعارضه هناك، هي أشبه بمحاكمة تكون فيها أنت المتهم والمحقق والقاضي والجلاد وكأنك تمثل مشهداً من رواية المحاكمة لكافكا... إلى أي منهما ينتمي كيانك؟!.

العجيب والغريب في الأمر أن كل من ذكرت من قمم الشعر كانوا مداحين لانظمة تتنقل من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، لكن ضابط الشرطة الواقف بينهم لم يمدح النظام الذي كان يقضي فيه خدمته، لم يتضع لديكتاتور حرق الاخضر فالاخضر فالاخضر من شبابه، لكنه بقي محتفظا بكرامة شِعره ولم يسكب قطرة حياء جبهته أمام حذاء السيد الرئيس(سابقا)، بل كان متوجها بكليته إلى كون يجذبه هو محمد وآل محمد.

عام 1986 نشرت لي جريدة العراق مقطوعة شعرية وكان محرر الصفحة المرحوم “أبو صارم”، تنبأ لي بمكانة كبيرة في الشعر، لكنني اهتممت بحياتي المعاشية، ماذا يعني أن يُضاف رقم إلى متوالية الأعداد الشعرية وكلها تموج وتهرج بقائد النصر الأوحد العظيم الذي خرج من حفرته بيد الأميركان بعد عام 2003، أنا لو قبلت بهذا القدر كنت أصبحت زيادة في هذا النقصان العظيم الذي يتسع في الشعر...

أقيم أول ملتقى للشعراء الشباب عام 1991 في فندق السدير نوفيتيل قرب ساحة الاندلس، حضر الشعراء السبعينيون بصفتهم آباء جيل التسعينات، ذهبت إلى بيتي وخلعت بدلة ضابط الشرطة وارتديت الملابس المدنية، قدموني بصفة ضيف على المهرجان، ألقيت قصيدة كتبتها بعد عودتي من الكويت التي أشركوني فيها بصفتي ضابط نجدة، قصيدة من أوائل جنوني عنوانها “ ياذكريات”، أحدثت لغطاً كبيرا بين الشعراء الشباب يومها، أنا وُلدت كبيراً في الشعر، فوجئوا بضابط الشرطة وهو ينافس عظماء القصيدة العمودية الكلاسيكية في تأريخ الشعر العربي، وحين سألوني عن وظيفتي فوجيء الجميع حين قلت لهم أنا ضابط مركز شرطة الجزائر في مدينة صدام ( الصدر حالياً)، هذا التناقض الغريب لايمكن أن يجتمع إلا في رأس أنا صاحبه، كثير من الدعاوى التي حققت فيها أوصلت المتهمين إلى الإعدام بفعل جنائي قاموا بارتكابه هم، وهذا ليس ذنبي، جرائم القتل والسطو المسلح التي قام بها المجرمون هم يدفعوا ثمنها أمام القانون، وليس مطلوباً مني أن أرتشي لأغيّر الحق إلى باطل والباطل إلى حق، مع هذا فهو ليس من واجبي أن أبرِّيء المجرم حتى يقال عني أنني انسان شاعر، الشاعر في داخلي يرفض هذه المساومة الغبية.

كنت أذهب إلى استاذنا المرحوم الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد، أعطيته نصاً هو (جنوباً إلى القلب) أبكاه كثيراً، حتى أنني استأذنت منه الخروج فوضع يديه على يدي وقال لي:

-الضمير الذي كنت أبحث عنه طيلة عمري أجده في ...شرطي!!.

كان هذا الشرطي أنا، المملوء بضمير حي لم تغيّره تقلبات الحياة، ربما تغيرات وتقلبات الحياة التي يدركها الشاعر قبل الشرطي الذي في داخلي، هو مادفعني إلى ما أنا عليه في الشعر العربي اليوم.

كنت أنشر قصائدي على صفحات الصحف اليومية والاسبوعية، أتذكر أن جريدة بابل نشرت لي قصيدة أخاطب فيها الوطن عنوانها (سيدي يا أيها الوطن)، خالية من اسم صدام،  أتذكر دخل علي سيد معمم إلى غرفتي، كان سيدا وسيما وربما كان إماماً لجامع في المشتل، أظهرت معه ثقافتي الدينية والشعرية فقال : سيدنه تصور أن أحد الشعراء يقول لصدام:

ماشئت كان وماتشاء يكون

 إذْ أنت أنتَ وماسواك يهونُ

وهو مطلع قصيدتي المنشورة قبل عدة أيام من لقائي معه، قلت له: سيدنا منو جاب لك القصيدة قال لي: أحد المصلين...قلت له هذا مصلٍّ جاهل...قال أنه من المؤمنين ( يعني شيعي)، قلت له :هذا مصل ومؤمن جاهل...قال: كيف؟!

قلت له: هذه القصيدة لي، اعطيته نسخة من الجريدة وقلت له: هذه القصيدة لي، ماعليك بالإخراج الفني للصحيفة، فهم مغصوبون لوضع تخطيط للرئيس(سابقاً)، وسألته: استخرج لي بيتا فيه اسم صدام...طالعها ولم يجد اسم صدام فيها...قال :كلامك صحيح...قلت له عنوان القصيدة( سيدي يا أيها الوطنُ) وليس عن غيره، أشرت إليه أن يقرأ بيتا بعينه يقول:

ألا تُمدُّ يدٌ لتهلك حرثَهُ

 يسعى بها المأفونُ والمأبونُ

المعروف بين العراقيين أن صداماً كان شاذا منذ صغره، أشرت إليه إلى كلمة (المأبونُ) فقلت هذا هو! فضحك وقال: أنت داهية.

بين الشرطة والشعر علاقة غريبة، في الشرطة تلتزم بتطبيق القوانين وفي الشعر تلتزم بقانون الأوزان الشعرية، لاتستطيع أن تكون شرطياً من دون ملابس حكومية وفي الشعر تستطيع أن تكون شاعراً بأية ملابس لاتعترف بها الحكومة، في الشرطة تترفع وتتقدم بالرتب العسكرية،ولكن في الشعر تستطيع أن تقفز الرتب لتكون شاعراً حقيقياً، الشرطة لديها القيود والأصفاد والأدوات المساعدة لانتزاع الحقيقة، بينما في الشعر تمتلك سلطة الخيال لصنع حقيقة من أوهام متخيلة، لايمكن للشرطي أن يكون شاعراً، وللشاعر أن يصبح وزيراً للداخلية في وطنه اللغوي، لكن من العجيب أن يندمج الشرطي مع الشاعر ليولد منقذٌ بالحد الأدنى لإنقاذ مايستطيع انقاذه في جمهورية الخراب وهكذا كنت فيما عرفته.

دواء مر

في مقارنة عقلية أجد أن الشرطي يتلبسك، فيما يقوم الشاعر بتلبس الشعر، الوظيفة تكتب الشرطي فيما الشاعر يكتبها، الشرطة أشبه بالدواء المر الذي تتغصصه رغماً عنك، بينما في الشعر هناك اتفاق ضمني بوصفه علاجاً، الشرطة تظهرك على  أنك سوط والشعر يظهرك على أنك حديقة ورود، الشرطة تعطيك سلطة على من سواك، والشعر يعطيك سلطة على روحك، ربما تسهل لك الشرطة بجلد سواك، لكن القصيدة هي وحدها من تجلدك، الشرطة تجعلك قويا والشعر يظهر ضعفك لأنها ممارسة روحية، الشرطة لغة عربية بينما الشعر لغة اجنبية مترجمة، الشرطة بيت يغطيك، بينما الشعر يجعلك تغطي روحك لأنه منزلك الروحي، الشرطة تظهرك ذا قوة بينما الشعر يجعلك في اقصى نهايات ضعفك، الشرطة أشبه بشكوى ضدك والشعر أن يكون ملاذك في الشكوى، في الشرطة لسانك بذيءٌ بينما الشعر يجعلك طاهر الروح واللسان، الشرطة تجعلك كائناً اجتماعياً والشعر يليق به الإعتزال، الشرطة تقيدك بوصفها وظيفة، بينما الشعر أنت تمارس تقييده، الشرطة تجعلك مجبوراً على معاشرة الناس، بينما الشعر أن تعيش وحدك، الشرطة تهافت والشعر علوٌّ، في الشرطة يغتصبونك عنوة( نفسياً) بينما القصيدة في الشعر أنت تغتصبها برضاها، في الشرطة بامكانك ان تنال نصيباً من الغنى، في الشعر الفقر أقرب إليك من ثيابك، الشرطة تشعرك بالضعة النفسية بينما الشعر تسامق نفسي، في الشرطة أنت متهم أمام الناس بينما الشعر يجعلك بريئاً أمام نفسك، في الشرطة تهمك نظرة الناس بينما في الشعر لاتهمك نظرة الناس، في الشرطة أنت تحاسب الناس، بينما في الشعر يحاسبك الناس، في الشرطة أنت عاقل وطائش، بينما في الشعر أنت طائشٌ، في الشرطة أنت مُتَّزن وفي الشعر أنت خفيف، في الشرطة أنت مكتفٍ مادياً وفي الشعر أنت فقير، في الشرطة أنت مهندم، وفي الشعر أنت صعلوك، في الشرطة أنت مُعطَّر وفي الشعر تعلوك رائحة الخمر إذا كنت شارب خمر، في الشرطة تكتسب احترام الآخرين، بينما الشعر يكسبك امتهان الآخرين لك، في الشرطة ليس لديك قيمة عند حكومتك الظالمة، لكن في الشعر حتى مع عدم وجود قيمة لك... تكون قد فقدتها تماماً، في الشرطة لاتحترم نفسك وعقلك وإنك غير محسود، في الشعر تكسب احترام نفسك وعقلك محسود، في الشرطة يخافك الآخرون، بينما في الشعر تخاف من الآخرين، في الشرطة أنت تتحكم بالآخرين بينما الشاعر يتحكم بك، في الشرطة يتبين لك أن عمرك وطاقتك هباء بينما الشعر هو ديوان عمرك، في الشرطة أنت تقيِّد الآخرين بينما في القصيدة في الشعر تقدمك متهماً مقيداً أمام الآخرين، في الشرطة تزج بالآخرين في السجن، بينما الشعر يزجك في زنزانات مختلفة، في الشرطة تصبح كريماً، بينما في الشعر يتصدق عليك الطغاة والممدوحون مراراً وتكراراً، في الشرطة يُحسب الموقف لك، وفي الشعر تكون محسوداً بالموقف، في الشرطة خطك متعرج، بينما في الشعر خطك مستقيم، في الشرطة تكون آخر الناس في نظر السلطة ولاتعدو أن تكون كلب حراسة، بينما في الشعر تكون أول وآخر الناس فيك، في الشرطة يحتاجك الناس للأمان، بينما الشعر يجعلك تخاف من وحدتك وتفرق الناس عنك....

في كل ماتقدم، تجد أنَّك ضابط شرطة تلبسته روح عظيمة من عظماء الشعر، وربما كنت شاعراً مهماً قدرت قدرة الله أن يلبسه ملابس الشرطة، لكن في كلتا الحالتين بقيت انساناً له مشاعره واحساساته البشرية مثل أي شخص وجد نفسه في مكان لايعلم فلسفة وجوده سوى الله ورسوله ص وآله وأئمة أهل بيت النبوة صلوات الله وسلامه عليهم.


مشاهدات 64
الكاتب وجيه عباس
أضيف 2025/07/05 - 12:58 AM
آخر تحديث 2025/07/05 - 1:16 PM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 347 الشهر 2610 الكلي 11156222
الوقت الآن
السبت 2025/7/5 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير