روسيا وأوكرانيا ... من الاستنزاف إلى معادلة نووية مهددة
عمرو أبوالعطا
يُعتبر النزاع الروسي-الأوكراني أحد أخطر الصراعات الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين، لا كونه صراعًا محليًا فقط، بل كونه إعادة تشكيل جذرية لموازين القوى العالمية، واختبارًا حقيقيًا لنظام الأمن الدولي ، منذ اندلاع العمليات العسكرية في فبراير 2022، تحولت الحرب إلى استنزاف دموي متواصل مع تصاعد التهديدات النووية، ما رفع سقف المخاطر الإنسانية والسياسية إلى مستويات غير مسبوقة، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية احتواء نزاع يحتمل أن يمتد طويلاً ويهدد استقرار العالم.
انطلقت الحرب بين روسيا وأوكرانيا على خلفية توترات سياسية وجغرافية عميقة الجذور؛ حيث ترى موسكو نفسها في موقع الدفاع عن مناطق نفوذ إستراتيجية ومحاربة تمدد حلف الناتو شرقًا، فيما تصر أوكرانيا على حقها في سيادتها واستقلالها الكامل ، هذا الصراع يعكس بوضوح أن الحدود الجغرافية التقليدية لم تعد تمثل عائقًا أمام طموحات القوى الكبرى، ما أدى إلى مواجهة عسكرية غير مسبوقة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
الوضع الحالي يؤكد أنه حرب استنزاف طويلة الأمد، لا حسم سريع فيها، مع محاولات كل طرف تقليل خسائره عبر تدفق دعم عسكري واقتصادي مستمر من الحلفاء، هذا الاستنزاف أدى إلى دمار واسع في البنية التحتية، مع ارتفاع أعداد الضحايا وتفاقم الأزمة الإنسانية في المنطقة.
إن هذا الاستنزاف المستمر هو فشل دبلوماسي كارثي، حيث أن الإصرار على المواقف الراهنة وعدم الانفتاح على حلول وسط يُعزز معاناة المدنيين ويزيد من تعقيد المشهد السياسي والعسكري.
يجب وقف مؤقت للعمليات الهجومية تحت رقابة دولية صارمة، تسمح بتبادل الأسرى وتنظيم عمليات إعادة إعمار محلية محدودة، لتوفير بيئة تهدئة تساعد على استئناف مفاوضات جدية ، هذه الخطوة من شأنها كسر دوامة الاستنزاف التي تفرغ الموارد وتزيد الخسائر دون تقدم فعلي على الأرض.
تتصاعد مخاطر استخدام السلاح النووي في ظل التوترات، حيث يلوح كل من الطرفين - روسيا والغرب - بهذه الورقة كتهديد استراتيجي ، الخبراء العسكريون يؤكدون أن السلاح النووي الاستراتيجي مكلف جدًا ومقيد برادع نووي نفسي يثني الأطراف عن التصعيد، إلا أن احتمال استخدام الأسلحة النووية التكتيكية يبقى حقيقيًا، ويشكل خطرًا داهمًا على الأمن العالمي.
لكن التهديد النووي ليس مجرد ورقة تفاوضية بل هو خطر قائم يستوجب تحركًا عاجلًا، إذ تبقى احتمالية وقوع خطأ بشري أو حسابات خاطئة مرتفعة في ظل حالة التصعيد الحالية، خاصة مع غياب قنوات اتصال شفافة بين الأطراف.
يجب إنشاء "مركز اتصال نووي رقمي مشترك" يعمل على مدار الساعة باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد وتحليل أية تحركات عسكرية أو نشاطات يمكن تفسيرها كتهديد نووي، مع إرسال تحذيرات فورية لمنع التصعيد غير المقصود. هذا المركز سيكون جسراً تقنياً فعالاً يخفض احتمال نشوب كارثة نووية بسبب سوء الفهم أو الخطأ.
أثرت الحرب بشكل عميق على أسواق الطاقة والغذاء، حيث أدت العقوبات الغربية على روسيا إلى إعادة توجيه تدفقات النفط والغاز، وقلصت الحرب من صادرات الحبوب الأوكرانية، مما تسبب بأزمات غذائية في مناطق عدة، وأظهر هشاشة الاقتصاد العالمي أمام الصدمات الجيوسياسية.
رأي الخبراء الاقتصاديين يشدد على ضرورة تنويع مصادر الاقتصاد وتقليل الاعتماد على مناطق النزاع، وتعزيز التعاون الدولي لتخفيف الأزمات الإنسانية. أرى أن الاقتصاد العالمي بحاجة إلى خطة استباقية لتحصينه من الأزمات السياسية، عبر بناء شبكات إمداد بديلة ومستدامة.
فلذلك لابد من تأسيس "صندوق أمني اقتصادي متعدد الأطراف" يديره تحالف من الدول المستقرة وغير المنخرطة في النزاع، لتمويل مشاريع بنية تحتية للطاقة والزراعة في مناطق آمنة، مع تطوير شبكات بديلة تضمن إمدادات مستقرة للطاقة والغذاء بعيدًا عن المناطق الساخنة. هذا الصندوق سيعزز استقرار الأسواق العالمية ويقلل من تأثير النزاعات السياسية على الأمن الغذائي والطاقة.
تلعب الصين دورًا معقدًا، حيث تدعم روسيا ضمنيًا وتحافظ على علاقات اقتصادية مع الغرب، ما يضعها في موقع لاعب محايد استراتيجي قادر على أن يكون وسيطًا محتملاً إذا ما اقتنعت بأن استمرار النزاع لا يخدم مصالحها.. من جهة أخرى، تقدم الولايات المتحدة دعمًا عسكريًا وماليًا قويًا لأوكرانيا، مع محاولة تجنب مواجهة مباشرة مع روسيا خشية الانزلاق نحو صراع نووي. أما الاتحاد الأوروبي، فيعاني من تداعيات اقتصادية مباشرة، ويفتقد إلى توحيد موقفه السياسي والاقتصادي بشكل فعال.
أري أن الصين تملك قوة تأثير كبيرة لم تُستغل بشكل كاف، وأن أمريكا وأوروبا تواجهان تحديات كبرى في موازنة دعمها لأوكرانيا مع الحفاظ على استقرار عالمي.
فلو قمنا بإطلاق منتدى دوري للقوى الكبرى والأمن الإقليمي يضم الصين، روسيا، الولايات المتحدة، الاتحاد الأوروبي، إلى جانب أوكرانيا ودول الجوار، لتطوير استراتيجية أمنية إقليمية مشتركة تشمل تبادل المعلومات، تدريبات عسكرية مشتركة، وآليات واضحة لتقليل التصعيد. فبذلك نحول الصراع من مواجهة عدائية إلى إدارة أزمة استراتيجية تحكمها قواعد واضحة ومقيدة
يري الخبراء أن الحرب ستظل استنزافية مع احتمال تصعيد نووي، ويدعون للحد من التصعيد وتحقيق استقرار نسبي. لكن أغلب التحليلات لا تولي اهتمامًا كافيًا لبناء آليات شفافة وعملية للتواصل، ولا للدور الذي يمكن أن تلعبه الوساطات الإقليمية والدبلوماسية متعددة الأطراف، ولكن تعزيز آليات التواصل بين القوى النووية وتفعيل الوساطات الإقليمية أمر ضروري لمنع سوء الفهم والحوادث غير المقصودة.
لذلك يجب تشكيل هيئة وساطة أمنية إقليمية تضم دول الجوار والشركاء الاستراتيجيين، مع دعم فني من الأمم المتحدة والوكالات الدولية، لمراقبة النزاع والوساطة الدائمة مع صلاحيات للتدخل الفوري في حالات التصعيد، ما يخلق جسراً دبلوماسياً فاعلاً يخفف التوتر ويعزز الحلول السلمية
أقترح إنشاء تحالف أمني نووي إقليمي متعدد الأطراف يضم روسيا، أوكرانيا، دول الجوار والقوى الكبرى، تحت إشراف هيئة دولية مستقلة، بهدف منع استخدام السلاح النووي التكتيكي، توفير قنوات اتصال دائمة، آليات تسوية سريعة، وتعزيز التعاون الاقتصادي والبنية التحتية، مع إشراك المجتمع المدني لضمان مراقبة تنفيذ الاتفاق وتحقيق الاستقرار الدائم، وهذا الحل هو خطوة أساسية نحو الاستقرار، لكنه يحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية والتزام دولي متواصل.
مع إضافة آلية "المراجعة الدورية المرنة" داخل التحالف تتيح إعادة تقييم الاتفاقيات كل 6 أشهر مع إمكانية تعديل سريع استجابة للتطورات، ما يجعل التحالف أكثر ديناميكية وواقعية، ويحد من مخاطر انهيار مفاجئ. كما ينبغي تضمين آليات عقابية داخلية تحفز الالتزام، لتحويل التحالف إلى منصة مستدامة لإدارة الأزمة.
أزمة روسيا وأوكرانيا ليست مجرد حرب إقليمية بل اختبار جوهري لنظام الأمن الدولي وقدرته على منع الكوارث النووية والحفاظ على الاستقرار العالمي. التصعيد المستمر والتهديدات النووية تتطلب تحركات جريئة وابتكارات في إدارة النزاعات، تقوم على التعاون المشترك وآليات عملية تتجاوز الدعم العسكري والسياسات التقليدية، بهدف حماية الإنسانية ومستقبل الأجيال القادمة.
الحل المقترح - رغم أنه يحتاج إلى توافق دولي - قد يكون المفتاح لكسر دوامة العنف وتحويل الصراع من مواجهة مدمرة إلى شراكة أمنية واقتصادية مستدامة.