الزمان - طبعة العراق - عربية يومية دولية مستقلة
www.Azzaman-Iraq.com
العميدي ناسك الخشبة وراهب الضوء في بابل.. مبدع لا يكتب المسرح بل يحيا فيه

بواسطة azzaman

العميدي ناسك الخشبة وراهب الضوء في بابل.. مبدع لا يكتب المسرح بل يحيا فيه

محمد علي محيي الدين

في مدينة الحلة، حيث يختلط عبق النخيل بصوت الفرات، وتعلو على جدرانها ظلالُ حضاراتٍ نطقت يومًا بالحرف والمسرح، وُلد غالب العميدي عام 1955، لا ليكون شاهدًا على التحولات الثقافية، بل ليكون أحد صنّاعها، ملامسًا جذور المكان، ومضيفًا حجرًا في صرح الفن العراقي الأصيل.

هو ليس مجرّد كاتب مسرحي أو ممثل أو إداري، بل ذاكرة تمشي على قدمين، تحمل أرشيف المدينة الثقــــــــــــافي وتفتحـــــــــه عرضًا بعد عـــــرض، ونصًـــــا بعد آخــر، لتُذكّر الأجيال بأن الخشبة ليست ساحة لهو، بل منبر للحقيقة، للوجع، وللمتعة في آنٍ معًا.

ولد غالب عباس رحيم العميدي في محلة المهدية بمدينة الحلة، وهو حيٌّ معروف ببساطته، لكنه غنيٌّ بعوالم الحكايات الشعبية، التي كانت تُلقى على مسامع الأطفال كأنها عروض مسرحية شفوية. من تلك البيئة انطلقت عيناه تبحثان عن خشبةٍ أخرى لا تسكن الحكايات فحسب، بل تعيد تشكيلها بلغة الجسد والصوت والضوء.درس في مدارس الحلة، ثم التحق بمعهد إعداد المعلمين، حيث بدأت ملامح شخصيته الفنية تشتد وتتكشف. كان المسرح مدرسته الموازية، وفيه تعلّم كيف يُمسك بتلابيب الفكرة، ويحوّلها إلى مشهدٍ مؤثّر يهزّ مشاعر الجمهور.

ومنذ عام 1973، حين التحق بفرقة مركز شباب الحلة المسرحية، بدا واضحًا أن هذا الشاب الهادئ لن يكون رقماً عابرًا في سجل الحضور. توالت بعدها عضويته في فرق التمثيل، واللجان المسرحية، والهيئات الثقافية، حتى ترأس فرع نقابة الفنانين في بابل لأكثر من عقدٍ من الزمان، وقاد الحركة المسرحية خلال سنوات الحصار الثقافي والاقتصادي، حين كانت البلاد تبحث عن أي نافذةٍ للضوء.

كتب أكثر من 35 نصًا مسرحيًا، ما بين التأليف والإعداد، لم يكن يكرر فيها ذاته، بل كان يـــــراوح بين الواقعي والرمزي، بين الشعبي والتاريخي، بين التربوي والتأملي. أسس فرقًا مسرحية، منها فرقة «المسلة» الأهلية، وساهم في تنظيم عشرات المهرجانات التي أعادت للمسرح البابلي هيبته، بل جعلت من الحلة وجهة فنية، على الرغم من الظروف السياسية والاقتصادية القاسية.

ولم ينسَ غالب العميدي أن الفن لا يكون مؤثرًا إلا إذا حمل رسالة تربوية. ولذلك كانت مسيرته التعليمية متقاطعة دومًا مع عمله الفني. منذ أن نُسب إلى النشاط المدرسي، وحتى تقاعده عام 2018، عمل على إشراك الطلبة في المسرح، ليس بوصفه مادة ترفيه، بل كوسيلة لبناء الشخصية وتعزيز الانتماء. أشرف على أكثر من 700 عرض مدرسي، وكتب وأخرج ودرّب وعلّم، ليؤكد أن المسرح يمكن أن يكون حجر الأساس في مشروع تربوي وطني متكامل.

صوت النقاد

لم يكن العميدي فنانًا صاخبًا. لم يسعَ يومًا إلى مركز الأضواء، بل ظلّ يعمل في الظل، حتى التفت النقاد أخيرًا إليه. كتب عنه الدكتور عامر صباح المرزوك في «غالب العميدي.. إيقونة المسرح الحلّي» :هو لا يكتب المسرح، بل يحيا فيه. شخصيته تشبه الشخصيات التي يخلقها: مزيج من الصبر، والحكمة، والاحتراق الداخلي

أما الكاتب نبيل عبد الأمير الربيعي فقد رأى فيه «شاهدًا على التحوّلات الثقافية في الحلة، لا بوصفه مؤرّخًا، بل كمشارك فعّال في صناعتها، وصانعًا لرمزيتها الفنية

ويذهب بعض النقاد الشباب إلى وصف تجربته بـ»المدرسة الموازية للمسرح الرسمي»، معتبرين أن أعماله لم تكن تنافس عروض العاصمة من حيث الدعاية، لكنها تفوقت عليها في الأصالة والالتصاق بجمهور المدينة.

ونال العميدي عشرات الجوائز والدروع والأوسمة، منها «وسام الفن» و»درع الإبداع» من وزارة الثقافة العراقية، ومؤسسات فنية محلية، فضلاً عن مشاركاته الواسعة في المهرجانات داخل وخارج العراق، ومنها مهرجان الكويت عام 1979. كانت الجوائز بالنسبة له ليست غاية، بل نتيجة طبيعية لمسيرة لم تُبنَ على الطموح الشخصي، بل على الإيمان برسالة المسرح.كان يرى أن الجائزة الحقيقية هي أن يتغير سلوك تلميذ بعد أن يشاهد عرضًا تربويًا، أو أن تدمع عين مشاهد أمام مشهد صادق، أو أن يقول له أحد خريجي المدارس: «أستاذ، أنا أصبحت ممثلًا بفضلك

و العميدي ليس نجمًا تلفزيونيًا، ولا اسمًا استهلكته الشهرة، بل هو أحد آخر الحراس النبلاء على أسوار المسرح العراقي، أولئك الذين ظلوا يؤمنون أن الفن فعل مقاومة، وأن الكتابة للخشبة هي كتابة للناس، للمدن، للذاكرة.

في زمنٍ بات فيه المسرح هامشًا، ظلّ هو في المتن، يكتب ويخرج ويشرف ويشارك ويؤرّخ. هو ذاكرة بابل المسرحية، ومؤرّخها، وناسج ضوئها.

فليُكتب اسمه في سجل الخالدين من رجالات الثقافة العراقية، لا لأنه أبدع فحسب، بل لأنه وهب حياته للآخرين عبر خشبة لا تنام.

 


مشاهدات 157
أضيف 2025/06/14 - 12:04 AM
آخر تحديث 2025/06/15 - 4:46 AM

تابعنا على
إحصائيات الزوار
اليوم 119 الشهر 9560 الكلي 11144214
الوقت الآن
الأحد 2025/6/15 توقيت بغداد
ابحث في الموقع
تصميم وتطوير